Translate

الجمعة، 21 مارس 2014

تحليل وتقويم عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر الفصل الرابع

تحليل وتقويم عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية
في الفكر الاداري المعاصر


الفصل الرابع

تحليل وتقويم عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية
في الفكر الاداري المعاصر

اولاً: مصاعب واهمية القياس العلمي لظاهرة القيادة الادارية:
اذا كانت هناك آراء لبعض الكتاب تربط بين التقدم العلمي في أي مجال من مجالات البحث، وبين مدى دقة وصلاحية مناهج البحث المستخدمة[22]، فإن هناك آراء اخرى تربط ايضاً بين مدى التقدم العلمي في أي مجال من مجالات البحث، وبين مدى دقة وصحة عمليات القياس المستخدمة، وترى تلك الآراء ان القياس الصحيح عملية جوهرية، لاغنى عنها لتحقيق التقدم العلمي والنجاح في الوقوف على حقيقة أي ظاهرة من الظواهر[23].
وعلى ذلك فإن في الامكان - وبمقتضى التحاكم الى هذه الآراء ان نرجع اخفاق الفكر الاداري المعاصر في الوقوف على حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، الى عدم دقة وصحة عمليات القياس المستخدمة، في هذا الصدد وعدم صلاحيتها للوقوف على حقيقة تلك الظاهرة.
وقد يكون هذا الاستنتاج صحيحاً الى حد كبير، فالمشاهد انه بالرغم من اهمية القياس العلمي الصحيح، فإن هذا الموضوع لم يلق الاهتمام الكافي بعد من قبل رجال الفكر الاداري المعاصر المعنيين بدراسة وقياس حقيقة القيادة الادارية، ولعل خير شاهد على ذلك ان العديد من دراسات وأبحاث القيادة يتم القيام بها، بالرغم من عدم توافر معيار القياس الصحيح لهذه الظاهرة، وبالرغم من ان توافر هذا المعيار الصحيح يعتبر ضرورة لا غنى عنها للقياس العلمي الصحيح[24].
وبدلاً من ان تتجه تلك الدراسات والابحاث بجهودها نحو العمل على استكشاف هذا المعيار - او حتى الاتفاق على معيار موحد تنطلق منه - نجد العديد من هذه الدراسات تبدأ البحث من منطلق التحاكم الى معايير تحكمية لنمط القيادة الادارية الرشيدة والفعالة، بالرغم من ان هذه الأنماط المعيارية التحكمية كثيراً ما تختلف من باحث الى آخر[25].
وقد كان المنطق يستوجب ان تنتهي دراسات وابحاث القيادة بالوقوف على هذا المعيار، لا ان تبدأ به بهذا الشكل التحكمي[26]. فإذا ما تم لها ذلك كان الطريق ميسرا أمامها للمضي قدماً في بحث ودراسة كافة جوانب وابعاد القيادة الادارية من منطلق التحاكم الى هذا المعيار الصحيح.
ولعل هذا المسلك من قبل رجال الفكر الاداري المعاصر، إنما هو في الحقيقة انعكاس لوجود عديد من الصعوبات التي تعترض عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية - وغيرها من الظواهر غير الحسية - بصفة عامة، وبصفة خاصة الوقوف على المعايير العلمية الدقيقة لظاهرة القيادة - وغيرها من الظواهر غير الحسية، ولقد أشار الى هذه الصعوبات عديد من الكتاب[27].
ونورد فيما يلي عدداً من الصعوبات والعقبات التي تعترض قياس ظاهرة القيادة وغيرها من الظواهر غير الحسية (الظواهر الاجتماعية والنفسية) التي أشار اليها ج. واين رايتستون وزملاؤه[28]:
(أ) تأثير العوامل الشخصية الذاتية - المرتبطة بالشخص - كالصحة والمرض او التوتر العصبي او النشاط او التعب على دقة قياس تلك الصفات والقدرات.
(ب) تأثير عوامل المصادفة والاحداث العارضة وانعكاسها على عمليات قياس الصفات والقدرات والمهارات الفردية.
(حـ) تأثير وانعكاس العوامل الخارجية المرتبطة بالظروف والمتغيرات البيئية على عمليات قياس تلك الصفات والقدرات والمهارات الفردية.
(د) تباين كل من الصفات النفسية، العامة والخاصة، وكذلك القدرات والمهارات الفردية من فرد الى آخر - بل وتباينها لدى الفرد الواحد من فترة الى أخرى - ومن ثم صعوبة التعميم.
هذه هي بعض الصعوبات التي اشار اليها بعض الكتاب، والتي تعترض عمليات قياس الظواهر - غير الحسية -  بشكل عام، وتعترض الوقوف على معيار القياس الصحيح بشكل خاص ولقد اشار الى ذلك Wendell French حيث يقول:
"ربما تكون المشكلة الاكثر صعوبة في عملية القياس هي تحديد المعيار المناسب، ولذلك فغالبا ما تكون هي الخطوة الوحيدة من خطوات القياس التي لا تؤدي مطلقاً، بالرغم من ان المنطق السليم يقضي بان تكون هي اول ما يجب عمله".
ولقد كان جديرا بالفكر الاداري المعاصر مع تلك الاهمية التي لعملية القياس العلمي الصحيح، ومع تلك التحذيرات التي اشار اليها هؤلاء الكتاب حول الصعوبات التي تعترض القياس العلمي لظاهرة القيادة الادارية - وغيرها من الظواهر غير الحسية - ان يولي هذا الفكر اهتماماً اكبر بعمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية، وان يحرص على ان تتوافر بعناصرها الشروط العلمية الواجب توافرها لصحة عناصر عملية القياس، ومن ثم يصبح في امكانه الوقوف على حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، ولكن اخفاق الفكر الاداري في الوقوف على حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، واستمرار هذا الانقسام والتباين في مواقف الفكر الاداري المعاصر في هذا الصدد، يشير الى ان هذا لم يتحقق، وان هناك قصوراً في عمليات القياس المستخدمة لقياس تلك الظاهرة، ومن هنا صار لزاماً علينا ان نتحقق من حقيقة هذا القصور، ومن ثم فسوف نقوم في البند ثانياً ببيان أنواع ومستويات وعناصر القياس بشكل عام، ثم نقوم بعد ذلك بدراسة الشروط العلمية لصحة عناصر عملية القياس ومدى توافرها في عناصر عملية قياس ظاهرة القيادة الادارية.

ثانياً: أنواع ومستويات وعناصر القياس:
(أ) انواع القياس: للقياس تصنيفات متعددة ومن تلك التصنيفات تصنيف القياس الى: قياس الظواهر الاجتماعية والنفسية، وقياس الظواهر الطبيعية والمادية، وتصنيفه كذلك الى: القياس في المنطق، والقياس في اللغة، والقياس في الاحصاء والقياس بمعنى تقدير أوزان الاشياء - القياس الكمي -[29] والقياس في الفقه - كمصدر من مصادر التشريع في الاسلام - ولكننا نميل الى الأخذ بتصنيف آخر، وهو تصنيف القياس الى الثلاثة أنواع التالية:
1 - القياس الوصفي: وهو ذلك النوع من القياس الذي يقتصر على مجرد وصف الظاهرة موضع القياس، وتميزها عن غيرها من الظواهر، وهذا النوع من القياس غالبا ما يستخدم في مجال دراسة الظواهر والعلوم الاجتماعية والنفسية بصفة اساسية.
2 - القياس الكمي: وهو ذلك النوع من القياس الذي يعني بتحديد وتقدير الاوزان الكمية للأشياء، ويغلب استخدام القياس الكمي في قياسات الظواهر الطبيعية والمادية.
3 - القياس القيمي - المالي: وهو ذلك النوع من القياس الذي يعني بتحديد وتقدير القيمة المالية او الاقتصادية للاشياء أو الامور، ويغلب استخدام هذا النوع من القياس في قياسات الظواهر الاقتصادية.
(ب) مستويات القياس: للقياس مستويات أربعة يكاد الاجماع ينعقد عليها من جانب الكتاب والباحثين وهي:
المستوى الاول: مستوى القياس التصنيفي - الاسمي: Nominal Scale[30]: وطبقاً لهذا المستوى من القياس، يتم تصنيف الامور او الظواهر الى فئات او نوعيات محددة بغرض تمييز كل منها عن بعضها البعض، طبقاً لمدى التشابه او التماثل - أو الاختلاف - فيما يتعلق بسمات أو خصائص معينة، وابسط الامثلة على هذا المستوى من القياس نجدها في القياس بتحديد ماهية مفردات عدد من العناصر وتميز مفردات كل عنصر عن مفردات العناصر الاخرى، ففي مجال قياس الظواهر الطبيعية والمادية عندما نقوم بتمييز عنصر من العناصر على أنه نبات، فإن هذا يعني اننا نقول بأن هذا العنصر تتوافر به سمات او خصائص معينة تميزه عن كل من الجماد والحيوان والانسان، وكذلك عندما نقوم بتميز عنصر من العناصر على انه (معدن النحاس)، فإن هذا العنصر تتوافر به سمات او خصائص معينة تميزه عن غيره من المعادن.
وفي مجال العلوم الاجتماعية والادارية، إذا كان لدينا مفاهيم معينة لطبيعة جماعات العمل المختلفة، وقمنا بتصنيف عدد من جماعات العمل وتمييز كل منها، فميزنا جماعة العمل الاولى بأنها (جماعة عمل أوتوقراطية) وميزنا جماعة العمل الثانية بأنها (جماعة عمل ديمقراطية)، فإن هذا يعني ان جماعة العمل الاولى يتوافر في افرادها وفيها - كجماعة عمل - صفات وخصائص معينة لا تتوافر في جماعة العمل الثانية، في حين تتوافر في جماعة العمل الثانية وفي أفرادها صفات وخصائص أخرى لا تتوافر في جماعة العمل الاولى ولا في أفرادها.
وعلى ذلك يتضح لنا ان هذا التصنيف او القياس الاسمى انما يقوم على تصنيف الاشياء أو الامور، وتمييز كل منها طبقاً لمدى توافر صفات محددة أو خصائص معينة بكل عنصر من هذه العناصر وعدم توافر صفات او خصائص أخرى. وعلى ذلك فجوهر مستوى القياس الاسمى - التصنيفي هو مدى تشابه مفردات العنصر موضع القياس في خصائص معينة ومدى اختلافها عن مفردات العناصر الاخرى.
المستوى الثاني: مستوى القياس العادي - الترتيبي: Ordinal Scale [31]: وهذا المستوى يعتبر خطوة متقدمة عن مستوى القياس التصنيفي، الذي يقتصر على مجرد تصنيف الظواهر او العناصر وتمييزها عن بعضها البعض، حيث يتضمن مستوى القياس الترتيبي وضع تلك الظواهر او العناصر في ترتيب او تدريج معين - تنازلي او تصاعدي - طبقاً لمدى توافر صفات او خصائص معينة بتلك الظواهر او العناصر موضع القياس الترتيبي.
وعلى ذلك فإن أهم ما يميز ذلك المستوى من مستويات القياس هو ذلك الترتيب الذي يشير الى تلك العلاقة - التصاعدية أو التنازلية - التي تربط بين الظواهر موضوع القياس، ويجدر بنا ان نشير الى ان هذا الترتيب لا يحمل دلالة اكثر من مجرد وجود تفاوت او تباين بين العناصر موضوع القياس في خاصية من الخصائص، وتحديد اتجاه هذا التفاوت والتباين، اما تحديد مقدار وحجم هذا التباين او التفاوت فمجاله المستوى الثالث من مستويات القياس.
وكمثال على ذلك في مجال الظواهر الطبيعية او العناصر المادية إذا كان لدينا عدد من العناصر التالية، الماس والزجاج والخشب والورق وأردنا ان نقيس مدى صلادة تلك العناصر طبقاً لمستوى القياس الترتيبي، وعن طريق استخدام الطريقة المباشرة سوف نجد ان الماس يخدش العناصر الثلاثة الاخرى، بينما تعجز هذه العناصر عن خدشه، اما الزجاج فهو يخدش كل من الخشب والورق، بينما الخشب والورق لا يخدشان الزجاج، اما الخشب فهو يخدش الورق فقط، بينما الورق لا يخدشه وطبقاً لهذه النتائج فإن السلم الترتيبي التنازلي لهذه العناصر من حيث درجة الصلادة يضع الماس في أعلى السلم الترتيبي ثم يليه الزجاج ثم الخشب ثم الورق في أدنى سلم الترتيب التنازلي من حيث درجة الصلادة. وفي الواقع ان هذا الترتيب التنازلي لهذه العناصر انما يعكس في ثناياه مجرد علاقة تصاعدية او تنازلية بين تلك العناصر من حيث درجة الصلادة[32].
المستوى الثالث: مستوى القياس الكمي ذو الفئات المتساوية: Interval Scale:
وعند هذا المستوى لا تكتفي بمجرد الترتيب التصاعدي او التنازلي لمدى توافر خاصية من الخصائص بعدد ما من العناصر، ولكننا نعمد الى التحديد الكمي لمقدار الفرق في هذه الخاصية بين كل عنصر من هذه العناصر موضع القياس[33]، ويتميز القياس عند هذا المستوى بأنه ينطلق من نقطة صفر حقيقية، وان المقياس يتدرج في الصعود او النزول - بدءاً من هذه النقطة - وان الفرق بين كل درجة والآخرى ثابت ومنتظم.
وعلى ذلك، فإن هذا المستوى من مستويات القياس به خصائص المستوى السابق ولكن يزيد عليه ان المسافة التي تفرق بين درجة وأخرى في سلم القياس الترتيبي مسافة ثابتة ومنتظمة، ومن ثم فهي تعني وجود قدر معين معروف ومحدود من الفروق المتساوية بين كل درجة والدرجة التي تليها في سلم الترتيب التصاعدي أو التنازلي[34]، وقياس الحرارة عن طريق الترمومتر، وقياس الاطول عن طريق المتر هما من الامثلة الدالة على استخدام هذا المستوى من القياس الذي يتوافق مع طبيعة قياس الظواهر الطبيعية - المادية، تلك الظواهر التي يمكن ان تستند قياساتها الى وجود نقطة صفر حقيقة كأساس ضروري لبناء أي قياس كمي يوضح مقدار الفروق بين مختلف العناصر موضع القياس بالنسبة لمقدار توافر خاصية او عامل معين، فوجود نقطة - صفر حقيقية - هي التي تمكن الباحث من القياس والمقارنة الكمية الصحيحة عند استخدام أي أداة من أدوات القياس، وهذا يصدق على قياس أطوال او أوزان أو أحجام الظواهر الطبيعية والمادية - بصفة أساسية - ومع أننا نرى ان استخدام هذا المستوى من القياس لا يتلاءم مع طبيعة الظواهر غير الحسية (الظواهر الاجتماعية والنفسية). خصوصاً مع افتقاد قياساتها لوجود نقطة صفر حقيقية، إلا أن هناك وجهات نظر أخرى ترى ان في الامكان استخدام هذا المستوى من القياس لقياس الظواهر الاجتماعية والنفسية[35] وذلك على اساس امكانية افتراض وجود نقطة صفر وان كانت افتراضية.
المستوى الرابع: مستوى القياس النسبي: The Ratio Scale: وهذا المستوى من القياس يتميز عن القياس السابق بتحديد الافضلية في سلم الترتيب القياسي في شكل نسبة او نسب تعكس الفروق الكمية بين مختلف درجات القياس في سلم الترتيب طبقاً للمستوى السابق[36].
ويكاد يجمع غالبية الذين تناولوا هذا الموضوع[37] على ان هذا المستوى من القياس تستند قياساته على وجود نقطة صفر حقيقية، ومن ثم فهو يستخدم فقط لقياس الظواهر الطبيعية، والتي يمكن قياسها بطريقة مباشرة، وذلك كقياس الاطوال والاوزان والاحجام والمساحات والزوايا وغيرها من الجوانب التي تتميز بها الظواهر الطبيعية[38].
والذي نود ان نشير اليه، ان هذا التدرج في المستويات لا يمثل تدرجاً في الاهمية، بل يمثل تدرجاً في الانتقال من مرحلة القياس الوصفي الى مرحلة القياس النسبي - الكمي المباشر - كذلك يجدر بنا ان نشير الى ان المستوى الاول من القياس يعد في الحقيقة الركيزة الاساسية لكافة مستويات القياس التالية، وان أي خلل يشوب هذا المستوى من القياس سوف ينعكس حتما على مستويات القياس الاخرى، وان الدقة عند هذا المستوى من القياس تمثل المنطلق الاساسي للتقدم في مجال أي أبحاث وقياسات.
(حـ) عناصر القياس: إن النظرة التحليلية لعملية القياس عند أي مستوى من مستويات القياس، يتضح منها ان العناصر الاساسية لعملية القياس هي:
1 - موضوع القياس: وهذا قد يكون ظاهرة من الظواهر الطبيعية والمادية او من الظواهر الاجتماعية والنفسية، فكافة الظواهر يمكن ان تكون موضوعاً للقياس، فأي ظاهرة من الظواهر لها جوهر ووجود، وكل موجود إنما أوجده الخالق سبحانه بقدر معلوم ومحسوب (وكل شيء عنده بمقدار)[39].
2 - معيار القياس: والمعيار في حقيقة امره: هو تلك الصورة او الصورة الذهنية المجردة التي تفسر وتوضح وتحدد ماهية أي ظاهرة من الظواهر الحسية - أو الظواهر غير الحسية ان امكن الوقوف عليها - أو حقيقة أي عنصر من عناصر هذه الظواهر.
3 - أداة القياس: وهي تلك الوسيلة التي نستطيع بها ان ندرك صورة حسية للشيء، او الظاهرة موضوع القياس.
هذا بالاضافة الى ان عملية القياس تستوجب بداهة وجود شخص يقوم باستخدام ادوات القياس من اجل الحصول على صورة حسية دقيقة للظاهرة موضع القياس، كما تستوجب قيام نفس الشخص - او شخص آخر - بتفسير وتحديد حقيقة الشيء موضوع القياس، وذلك عن طريق القيام بمقارنة تلك الصورة او الصورة الحسية للظاهرة موضع القياس، بمعيار او معايير قياس تلك الظاهرة.
ويمكن لنا ان نتبين عناصر عملية القياس، وتسلسلها من خلال المثال التالي المتعلق بقياس ماهية عنصر من العناصر المادية (قياس من المستوى الاول):
1 - ان شخصاً ما - القائم بالقياس - قد لاحظ وجود عنصر ما من العناصر المادية:
2 - ان هذا الشخص قد استطاع - عن طريق حواسه مباشرة او عن طريق الاستعانة بوسائل او أدوات قياس مساعدة - الوقوف على صورة حسية لذلك العنصر.
3 - ان هذا الشخص كان متوافراً لديه صورة ذهنية مجردة تحدد ماهية عديد من العناصر المادية.
4 - ان هذا الشخص قد قام بمقارنة الصورة الحسية التي استطاع الحصول عليها للعنصر موضوع القياس بتلك الصور الذهنية المجردة المتوافرة لديه عن عديد من العناصر المادية.
5 - ان نتيجة المقارنة قد اسفرت عن وجود تماثل او تشابه بين تلك الصورة الحسية لذلك العنصر موضوع القياس، وبين إحدى الصور الذهنية المجردة، وهي الصورة الذهنية لعنصر الذهب.
6 - أنه نتيجة لتلك المقارنة وهذا التماثل او التشابه اصدر القائم بالقياس حكماً بأن هذا العنصر موضوع القياس هو عنصر الذهب.
ومنه يتضح ان الوقوف على حقيقة أي عنصر من العناصر أو أي ظاهر من الظواهر إنما يستلزم:
1 - وجود العنصر او الظاهرة موضوع القياس.
2 - وجود أداة او وسيلة من وسائل الادراك والقياس، تستطيع نقل وتقديم صورة حسية للعنصر موضوع القياس.
3 - وجود صورة او صورة ذهنية مجردة - معايير - تحدد وتفسر ماهية العناصر او الظواهر المختلفة، وتحدد وتفسر بصفة خاصة ماهية العنصر او الظاهرة موضوع القياس.
ويجدر بنا ان نشير الى اهمية توافر هذه العناصر الثلاث، من أجل اتمام عملية القياس، فالوقوف على حقيقة عنصر الذهب في المثال السابق لم يتحقق لمجرد رؤية القائم بالقياس ومشاهدته لذلك العنصر، ومن ثم الوقوف على صورة حسية لذلك العنصر، بل كان لابد من التفسير لماهية تلك الصورة الحسية، ولإتمام التفسير كان لابد من توافر تلك الصورة الذهنية المجردة – الذي يتخذها الانسان كمعايير لتفسير حقيقة ماهية تلك الصورة، ومن ثم الوقوف على ماهية ذلك العنصر موضوع القياس، ومن ذلك يتبين لنا ان إدراك حقيقة أي ظاهرة من الظواهر ليس قرين الرؤية او الاحساس الصحيح بها بل لابد بعد ذلك من توافر المعايير والمفاهيم الصحيحة التي تحدد بدقة كنه وماهية الظواهر المختلفة، ومن ذلك يتبين لنا ان النجاح في الوقوف على حقيقة ظاهرة من الظواهر إنما يتوقف على مدى دقة وسلامة عناصر عملية القياس وبصفة خاصة معايير القياس. والملاحظ أننا كثيراً ما نتغافل عن اهمية تلك المعايير، بالرغم من اهميتها وضرورتها، فالتفسير والحكم الصحيح إنما يتوقف بصفة اساسية على مدى دقة وصحة المفاهيم - المعيارية - وتلك الصور الذهنية المجردة المعبرة عن ماهية الظواهر المختلفة، وما اختلف الناس حول حقائق الاشياء إلا لاختلاف مفاهيمهم التي اتخذوها معايير لهم في تفسير تلك الحقائق[40]، فكل انسان يفسر ما يدركه على ضوء مفاهيمه ومعاييره الذهنية.
وعلى ضوء ما سبق نستطيع ان نتبين دلالة ذلك المغزى العظيم الكامن وراء تعليم الخالق سبحانه لآدم عليه السلام الاسماء كلها (وعلم آدم الاسماء كلها)[41] فهذا التعليم والالهام الالهي كان ضرورة من ألزم الضرورات لكي يدرك آدم حقائق الاشياء التي سوف تقابله عندما يخطو اولى خطواته على ظهر الارض، تلك الاشياء التي يتحتم عليه ان يتعامل ويتعايش معها منذ اللحظة الاولى، تلك الاشياء التي تمثل معطيات ذلك الامتحان والتحدي الكبير الذي صار على انسان العصر الاول وإنسان كل عصر مواجهته. ومن هنا يتضح لنا مدى أهمية دقة وسلامة تلك المعايير من اجل التفسير الصحيح لحقيقة أي ظاهرة من الظواهر، وكذلك شأن بقية عناصر عملية القياس.
ومن هنا ندرك مدى أهمية وضرورة الوقوف على الشروط العلمية التي تكفل صحة عناصر عملية القياس، وخصوصاً صحة معايير القياس المستخدمة لقياس ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر، لذا فسوف نتناول في هذا الصدد في الصفحات التالية عناصر عملية القياس طبقاً للتقسيم التالي:-
(أ) الشروط العلمية لصحة موضوع القياس، ومدى توافرها في ظاهرة القيادة الادارية وذلك بالبند "ثالثاً".
(ب) الشروط العلمية لصحة أدوات القياس، ومدى توافرها في أدوات القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، وذلك موضوع البند (رابعاً).
(ح) الشروط العلمية لصحة معايير القياس، ومدى توافرها في معايير القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، وذلك بالبند (خامساً).
(د) دراسة الشروط العلمية لصحة بقية عناصر القياس، ومدى توافرها في بقية عناصر القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، وذلك (بسادساً).
ثم نعقب على ذلك ببيان الدلائل العلمية على توافر الشروط العلمية لصحة مناهج البحث ومعايير القياس في الشريعة الاسلامية في المجالات النفسية والاجتماعية وسنخصص لذلك البند (سابعاً)، وسوف نتبع ذلك بتناول كل من الامرين التاليين:
(أ) الملامح الاساسية لمنهج التحاكم الى الشريعة الاسلامية، وذلك بالبند (سابعاً).
(ب) مظاهر واسباب اختلاف مواقف فقهاء الفقه الاداري الاسلامي من حقيقة المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية، وسوف نخصص لهذا الموضع البند (تاسعاً).
والغرض من هذين البندين هو التمهيد للجزء التالي وهو التحاكم الى الشريعة الاسلامية من اجل الوقوف على حقيقة القيادة الادارية.

ثالثاً: الشروط العلمية لحصة موضوع القياس، ومدى توافرها في ظاهرة القيادة الادارية:
يحلو للكثير من الكتاب كلما تعرضوا لهذا الموضوع ان يستشهدوا بتلك العبارة التي ذكرها Thorndike [42]:
"أن كل شيء موجود، موجود بمقدار وكل موجود بمقدار يمكن قياسه" ويستدلون بهذا القول على ان كافة الظواهر تصلح لان تكون موضوعاً للقياس، ومن ثم فقد صار هذا القول أساساً لكل الدراسات المعنية بالقياس وخاصة قياس الظواهر غير الحسية[43]، ومن الغريب ان هذا القول الذي قيل في منتصف القرن العشرين يصبح كذلك، علماً بأن آيات القرآن الكريم قد أشارت وأكدت على تلك الحقيقة منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام مضت، وشاهدنا على ذلك قوله تعالى:
- (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم)[44]
- (وكل شيء عنده بمقدار) [45]
- (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)[46]
- انا كل شيء خلقناه بقدر)[47]
فبأيهما يصح الاستشهاد، ان نستشهد بقول الخالق سبحانه في كتابه العزيز المنزل على رسوله عليه الصلاة والسلام منذ حوالي 1400 عام مضت، أم بهذا القول الذي قيل فقط في منتصف القرن العشرين، وترتيباً على التحاكم الى تلك الآيات يتبين لنا:
(أ) ن الاشياء كلها مخلوقة بقدر معلوم وموزون.
(ب) ان الله تعالى هو وحده الخالق للأشياء كلها.
فإذا علمنا بعد ذلك انه سبحانه حين خلق الاشياء كلها لم يكن معه سبحانه من شريك ولم يكن معه من شهيد[48]. وعلى ذلك فإنه سبحانه هو الذي يعلم وحده حقيقة كنه الاشياء كلها وحقيقة مقاديرها وأوزانها، وليس لأحد من خلقه ان يدعي هذا.
ولكن الله سبحانه شاءت حكمته ان يكرم الانسان، وأن يطلعه على بعض أسراره وعلمه، فيسر له السبيل للوقوف على حقيقة بعض الظواهر والاشياء الطبيعية والمادية، ومن اجل هذا فقد وهب سبحانه للإنسان الوسائل الذهنية والحسية - العقل والحواس - التي تمن الانسان من الوقوف على حقيقة تلك الظواهر، نلحظ هذا م تدبر آيات القرآن الداعية والحاثة للانسان على إعمال عقله وحواسه في الآيات والظواهر الكونية - الطبيعية والمادية - في أرجاء الكون والعمل على دراستها وقياسها واستقرائها، لكي يستخلص منها القوانين والسنن والعلوم الطبيعية والمادية، ومن ثم العمل على تسخيرها وتوجهها لما فيه نفعه، ولعل خير شاهد على ذلك هذا الفيض من الآيات القرآنية الحاثة والداعية للإنسان على إعمال سمعه وبصره وحواسه كلها وعقله وفكره فيما حوله من آيات كونية وظواهر طبيعية[49]، ومن تلك الآيات قوله تعالى:
- (قل سيروا في الأرض فانظروا)[50]
- (إن في السموات والارض لآيات للمؤمنين)[51]
- (ألم تر ان الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال...)[52].
- (أولم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شيء)[53].
- (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)[54].
هذا فيما يتعلق بالظواهر الحسية (الطبيعية والمادية)، اما فيما يتعلق بالظواهر غير الحسية (الاجتماعية والنفسية)، والتي ليس في مقدور حواس الانسان وعقله الوقوف على حقيقتها بيسر وسهولة، فقد شاءت حكمة الخالق سبحانه وتعالى تيسيراً على الانسان ورحمة به ان يجعل مناط الوقوف على حقيقة الامور المتصلة بهذه الظواهر غير الحسية (الاجتماعية والنفسية) هو الرجوع الى كتاب الله المسطور (القرآن الكريم)، وفي هذا الصدد نجد ان آيات القرآن لا تحث وتدعو بل انها تأمر وتنهى، وتفرض وتوجب، فليس للانسان خيار الاجتهاد ازاء تلك الظواهر والامور النفسية والاجتماعية المتعلقة بذات النفس الانسانية، فالأمر موكول فيها الى كتاب الله تيسيراً على الخلق وحماية لهم من ضعفهم واختلافهم في تلك الامور الخطيرة الشأن والأثر، والمتعلقة بذات الانسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ولعل خير شاهد على هذا آيات سورة النساء وخاصة الآيات الاولى منها التي جاءت لتشرع وتقنن وتنظم لحياة الإنسان الاجتماعية والنفسية، وبين ثنايا هذا التشريع والبيان الإلهي يقول سبحانه:
(يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم)[55].
ويقول سبحانه ايضاً:
(يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفاً)[56].
(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[57].. ويقول سبحانه في سورة ال عمران:
(والله يعلم وأنتم لا تعلمون)[58].
وعلى ذلك يتضح لنا من تدبر القرآن الكريم:
(أ) ان الخالق سبحانه قد جعل مناط الوقوف على حقائق الظواهر الطبيعية والمادية ان يعمل الانسان عقله وفكره وحواسه في كتابه المحسوس المنظور وآياته الكونية، فيعمل على دراسة ظواهره وقياسها واستقرائها والكشف عن قوانينها ونواميسها وتوجيه وتسخير تلك القوانين والنواميس الكونية لخير الإنسان.
(ب) أما في مجال الكشف عن الحقائق المتعلقة بالظواهر الاجتماعية والنفسية، فقد جعل الخالق سبحانه مناط الوقوف على حقائقها ان يعمل الانسان عقله وفكره وسمعه وبصره في كتابه المسطور (القرآن الكريم)، وتدبر آياته وسننه التشريعية[59]، والالتزام بتلك السنن والشرائع الهادية والمرشدة للإنسان لكل مافيه خير وصلاح امره في دنياه وأخراه.
ويستفاد من التناول السابق لكل من الظواهر الاجتماعية والنفسية (الظواهر غير الحسية) والظواهر الطبيعية والمادية (الظواهر الحسية)، وعلى هدى القرآن الكريم مايلي:
(أ) أن الظواهر الاجتماعية والنفسية ظواهر حقيقية لها وجود، شأنها في ذلك شأن الظواهر الطبيعية والمادية.
(ب) ان الظواهر الاجتماعية والنفسية لها قوانين ومبادئ وسنن تحكمها وتنظمها وتسيرها، شأنها في ذلك شان الظواهر الطبيعية والمادية.
(ج) أن طبيعة قدرات وحواس الانسان مهيأة للإدراك المباشر لكل ما هو مادي محسوس.
(د) ان الظواهر الاجتماعية والنفسية تمثل ظواهر وأمور معنوية - غير محسوسة - حيث تتعلق بأمور موضوعها ذات الانسان وحقيقته والغاية من خلقه ووجوده، وذلك بخلاف الظواهر الطبيعية والمادية التي تتعلق بأمور وظواهر مادية محسوسة.
(هـ) أن تلك الطبيعية المتميزة للظواهر الاجتماعية والنفسية قد جعلت القياس المباشر لتلك الظواهر - غير المحسوسة - صعباً إن لم يكن مستحيلاً على الإنسان، وذلك بخلاف الظواهر الطبيعية والمادية - المحسوسة - فحواس الانسان ووسائل إدراكه مهيأة لإدراك كل ما هو مادي محسوس بطريقة مباشرة.
ومن هنا كانت صعوبة القياس المباشر - او غير المباشر - لظاهرة القيادة الادارية، باعتبارها من الظواهر غير الحسية (الظواهر الاجتماعية والنفسية).
ولقد بدأ الفكر الانساني عامة والفكر الاداري خاصة يدرك مدى الصعوبات التي تعترض القياس المباشر وغير المباشر لهذه الظواهر والامور غير الحسية ومن الشواهد الدالة على ذلك:
(أ) ما أشار اليه Kerlinger[60] من ان هناك صعوبات تعترض القياس العلمي الدقيق للظواهر غير الحسية - الاجتماعية والنفسية - وخصوصاً القياس المباشر، ما اشار كذلك الى ان محاولات العلماء، الاستعاضة عن القياس المباشر بالقياس غير المباشر لهذه الظواهر غير طريق الاستدلال بالسلوك الظاهر على حقيقة تلك الظواهر، ان هي الا مجرد محاولات ظنية تخمينية تقف على ارض مهتزة. فالانسان يرصد في هذا الصدد جزئية من السلوك الظاهر، لعدد محدود من الافراد، ولفترة محدودة من الوقت، ثم يزعم بعد ذلك انه بهذا قد تمكن من الوقوف على حقيقة الظواهر المعنوية - النفسية والاجتماعية - الكامنة وراء هذا السلوك، فكيف يتأتى له ذلك بمثل هذا، ويقر Kerlinger بأن هذا العجز عن القياس المباشر، ومن ثم اضطرار العلماء الى اللجوء لهذا الاستدلال السلوكي والربط والتفسير الظني للظواهر غير الحسية (الاجتماعية والنفسية) يكاد يمثل العقبة الرئيسية التي تعترض الوقوف على حقيقة تلك الظواهر[61].
(ب) ذلك التحليل الذي أورده البعض للنفس (او الشخصية) الانسانية، والذي انتهى بهم الى تقسي الرباعي التالي لمناطق النفس البشرية، وذلك فيما يتعلق بمعرفة الانسان لنفسه ومعرفة الآخرين له[62]:
المنطقة الاولى: المنطقة المضيئة في النفس (الشخصية) الانسانية: وفي هذه المنطقة
تتجمع كافة العناصر الخاصة بالذات، والتي يعلمها الفرد عن نفسه، ويعلمه الآخرين عنه بنفس الدرجة.
المنطقة الثانية: المنطقة المظلمة: وتضم هذه المنطقة عوامل وعناصر غير معلومة للفرد وللآخرين (منطقة اللاوعي).
المنطقة الثالثة: المنطقة نصف المضيئة: وتضم العوامل والعناصر التي يعرفها الفرد عن نفسه، ولا يعرفه عنه الآخرين.
المنطقة الرابعة: المنطقة نصف المظلمة: وتضم العوامل والعناصر التي لا يعرفها الفرد عن نفسه، ويعرفها عنه الآخرون.
يستفاد من هذا التقسيم أمران:
الامر الاول: ان إدراك الانسان لحقيقة نفسه يختلف ويتباين عن إدراك الآخرين له.
الامر الثاني: ان حقيقة النفس (الشخصية) الانسانية تختلف وتتباين عن كل من ادراك الإنسان لنفسه، وعن إدراك الآخرين له.
ومقتضى ما سبق ان حقيقة النفس (الشخصية الانسانية) غائبة عن كل من الفرد ذاته وعن الآخرين، وهذا ما يمثل إقراراً وترديداً آخر لما سبق ان اشرنا اليه على هدى التحاكم الى القرآن الكريم، من أنه ليس من الميسور امام الإنسان بتحاكمه الى نفسه او الى الآخرين من حوله - ان يقف على حقيقة تلك الامور المتعلقة بذات نفسه والغاية من خلقه ومآله ومآل هذه الحياة الانسانية، وما وراء هذه الحياة الدنيا، وأن مرد العلم بحقيقة هذه الامور إنما هو الى الله الخالق وحده.
(ج) ما أشار اليه البعض[63]، من أن الظواهر الاجتماعية والنفسية وآثارها وانعكاساتها السلوكية تختلف وتتباين من فرد لآخر ومن جماعة الى أخرى، بل انها تختلف وتتباين لدى الفرد الواحد والجماعة الواحدة من فترة الى أخرى، ومن هنا تأتي صعوبة التعميم عن الحالات الجزئية او الفردية وإطلاق القول أو الحكم في هذا الصدد، ولعل هذا القول يمثل الاعتراض الأساسي الذي يثيره كثير من المتحفظين على إمكانية القياس العلمي للظواهر الاجتماعية والنفسية.
ومن هنا كانت ادعاءات الانسان - وخاصة إنسان العصر الحديث - في هذا الصدد موضع تحفظ، وكانت محاولاته للوقوف على حقيقة تلك الظواهر غير الحسية عن طريق تحاكمه الى نفسه، إن هي إلا محاولات ظنية تخمينية، ومن هنا كان إقرار Kerlinger، والآخرون بحقيقة عجز الانسان وإخفاقه في الوقوف على حقيقة ظاهرة القيادة الادارية وغيرها من الظواهر غير الحسية (الاجتماعية والنفسية).
ولا شك ان إخفاق الانسان في الوقوف على حقيقة هذه الظواهر والامور راجع - كما سبق ان اشرنا - الى أن الإنسان بحكم طبيعة قدراته وملكاته الحسية والادراكية، ليس مهيئا للوقوف على حقيقة هذه الامور والظواهر المعنية غير الحسية، التي من الصعب على الانسان - ان لم يكن من المستحيل عليه - إدراك كنهها وحقيقة أمرها عن طريق تحاكمه الى نفسه وعقله وحواسه.
وقد يظن البعض ان في مكنة العلم الحديث عن طريق تلك الادوات والاجهزة والمعدات المتطورة او المتقدمة المستحدثة التي اصطنعها الانسان لتعينه على البحث والقياس، ان يقف على حقيقة تلك الامور غير الحسية السابق الاشارة اليها.
ونود ان نشير في هذا الصدد الى مايلي:
(أ) أن الإنسان مهما اصطنع من اجهزة وأدوات ووسائل مستحدثة للبحث والقياس، فإن كافة هذه الاجهزة والادوات والوسائل مهما بلغت دقتها وتقدمها، لابد من ان تصب في النهاية في تلك الادوات والوسائل الحسية البشرية، ووسائل الإدراك الفطرية التي وهبها الله سبحانه للإنسان.
(ب) وترتيباً على ما سبق، فإن دور تلك الاجهزة والادوات والوسائل المستحدثة التي اصطنعها الانسان لتعينه على البحث والقياس قاصر - وسيظل قاصراً - على تقوية حواس وملكات الإدراك الفطرية لدى الانسان، ولن تكون بمثابة إضافة او استحداث لحواس أو ملكات إدراك جديدة للإنسان.
والذي نود ان نشير اليه هنا، أنه وإن كان الفكر الانساني قد بدأ يقر بهذا الن، فينبغي ان نلفت النظر الى ان هذا لا يعدو ان يكون ترديدا وإقراراً بما جاءت به آيات القرآن الكريم منذ مايزيد عن 1400 عاماً هجرياً، التي اكدت على ان هناك مناطق وأموراً متعلقة بالنفس الانسانية ليس في مكنة الانسان الوقوف على حقيقتها، ولعل خير شاهد على ذلك قوله سبحانه وتعالى:
(ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[64]
(ومالهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون)[65].
(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)[66].
(ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)[67].
فهذه الآيات تخاطب الانسان الذي راح يبحث عن حقيقة الروح، وتخاطب الانسان الذي راح يشرع لنفسه ولغيره، وراح يخوض في الغاية من خلقه ومآله ومآل هذه الحياة، وما بعد هذه الحياة، فكل هذه الامور غير الحسية، لا يملك الانسان من أمرها شيئا، وان هو - في شأنها - إلا يظن ظنا، وصدق الحق إذ يقول: (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)، وعلى ذلك فهذا الذي انتهى اليه علم Kerlinger وغيره من العلماء ما هو على الاسلام بجديد، وإن كان Kerlinger يرى اليوم ان الروح المعنوية والامانة والعدوانية والاستقلالية والعبقرية وغيرها من الخصائص النفسية والمعنوية - غير المادية - لا يمكن للانسان ان يقف على حقيقتها، فضلاً عن انه لا يمكنه ملاحظتها مباشرة، فهذا القول وإن كان يسقط ويتنافى مع دعاوى كثيرة في الشرق والغرب، فإنه بالنسبة للاسلام لايعد كذلك، وإنما يعد إقراراً وترديداً لما جاءت به آيات الحق سبحانه منذ ما يزيد عن 1400 عاماً هجرياً، فآيات القرآن تؤكد علم ما بالانفس وما بالصدور لا يعلمه إلا الله سبحانه، فهو كالغيب بالنسبة للإنسان، وصدق الحق إذ يقول: (إن الله عالم غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور)[68].
وإن كان هناك إنسان يستطيع ان يقف على خفايا النفس الانسانية وأغوارها، فقد كان حرياً ان يكون هذا الانسان، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حتى رسول الله لا يعلم عن حقيقة بواطن وخفايا نفوس الناس من حوله، إلا اذا علمه ربه بهذا أ, أخبره الوحي بذلك، وهذا ما تؤكده الآيات بصدر سورة (المنافقون)، حيث يقول الحق سبحانه لرسوله صلى اله عليه وسلم في حق المنافقين:
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خشب مسندة، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم)[69].
ومن جماع ما سبق تبين لنا ان ظاهرة القيادة الادارية، كظاهرة غير حسية، وثيقة الارتباط بحقيقة النفس البشرية، لا يمكن ان تكون موضوعاً للقياس العلمي المباشر، كما تبين لنا ان القياس غير المباشر لتلك الظاهرة - وغيرها من الظواهر الحسية - إن هو إلا محاولات او افتراضات ظنية أكثر من كونها قياسات علمية.
رابعا: الشروط العلمية لصحة أدوات القياس، ومدى توافرها في أدوات القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
وسوف نقوم في هذا الصدد بتناول الشروط العلمية الواجب توافرها لصحة أدوات القياس أولاً، ثم نتبع ذلك بالتحقق من مدى توافر الشروط بأدوات القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الإدارية.
(أ) الشروط العلمية لصحة أداة القياس: يكاد يجمع غالبية المفكرين والكتاب المعنيين بالقياس العلمي، على ان هناك شرطين أساسيين يجب توافرهما لصحة أي أداة من أدوات القياس، وهذان الشرطان هما:
الشرط الاول: ثبات أداة القياس[70]: والمقصود بذلك ان تعطى أداة القياس نفس النتائج إذا ما أعيد استخدام نفس الاداة - او أداة مكافئة لها - لقياس الشيء موضوع القياس اكثر من مرة - بشرط تماثل الظروف، ويقصد به كذلك ان تعاقب اكثر من باحث على استخدام نفس الاداة لقياس ذات الشيء يؤدي لنفس النتائج في كل مرة - بشرط تماثل الظروف كذلك. وهذا يعني ألا تختلف وتتباين النتائج التي تعطيها أداة القياس لقياس ذات الشيء، وبشرط تماثل الظروف من فترة الى أخرى أو من باحث الى آخر، وهذا يعني فيما يعني موضوعية أداة القياس وعدم تأثرها بهوية الشخص القائم بالقياس، فالترمومتر - كأداة من أدوات القياس - عندما يستخدم لقياس درجة حرارة مريض مرات متعددة يعطى ذات النتائج بغض النظر عن هوية وميول واتجاهات الشخص القائم بالقياس - بشرط تماثل الظروف.
ولقد تعارف المفكرون والكتاب المعنيين بالقياس على عدة طرق تستخدم للتحقق من مدى ثبات أدوات القياس، لعل من أهمها:
1 - إعادة استخدام نفس أداة القياس لقياس ذات الشيء موضوع القياس اكثر من مرة، سواء قام بالقياس في كل مرة ذات الباحث او تعاقب اكثر من باحث على استخدام نفس الأداة، فإذا ما أسفر القياس في كل مرة عن ذات النتائج كان هذا برهاناً على ثبت أداة القياس.
2 - استخدام أداة أو أدوات قياس مكافئة للأداة الاولى، لقياس ذات الشيء موضوع القياس، فإذا ما اسفر استخدام أداة - أو أدوات - القياس المكافئة عن ذات النتائج كان هذا دليلاً على ثبات أداة القياس.
الشرط الثاني: صدق أداة القياس[71]: والمقصود بهذا ان تكون أداة القياس قادرة على قياس الشيء موضوع القياس، وانها تقيس فعلاً ما يجب ان تقيسه.
ونلحظ مثل هذا الصدق واضحاً جلياً في أدوات القياس المستخدمة لقياس الظواهر والاشياء المادية والطبيعية، فالمتر عندما يستخدم لقياس الاطوال فهو مقياس صادق، لانه يقيس فعلاً ما وضع لقياسه، والترمومتر عندما يستخدم لقياس درجات الحرارة، وعداد الكهرباء عندما يستخدم لقياس المستهلك من الطاقة الكهربائية كل هذه الأدوات تتميز بالصدق، لانها تقيس ما يجب ان تقيسه.
وهناك عدة طرق متعارف عليها تستخدم للتحقق من مدى صدق أي أداة من أدوات القياس، والمشاهد ان غالبية هذه الطرق تعمد في هذا الصدد، إما الى مقارنة نتائج أداة القياس بنتائج أداة قياس أخرى دقيقة، معروف صدقها وصلاحيتها لقياس الظاهرة موضوع القياس، وإما تعمد الى القيام بفحص وتحليل مكونات أداة القياس ومدى إمكانياتها القياسية، ثم فحص وتحليل مكونات الشيء موضوع القياس، ثم العمل على المقابلة بينهما للوقوف على مدى ملاءمة وصلاحية الاداة لقياس الظاهرة موضوع القياس. ومن أهم أنواع الصدق[72].
1 - الصدق الظاهري: وللتأكد من توافر هذا النوع من الصدق نعمد الى الفحص الظاهري لمكونات أداة القياس، ومدى إمكانياتها القياسية، ثم الفحص الظاهري لمكونات الظاهرة موضوع القياس والمقابلة بينهما، فإذا اتضح من تلك المراجعة او المطابقة الظاهرية أن طبيعة أداة القياس تتطابق أو تتلاءم مع طبيعة الظاهرة موضوع القياس كانت أداة القياس صادقة ظاهرياً.
2 - الصدق المنطقي: ويطلق عليه ايضاً صدق المضمون، وللتحقق من توافر الصدق المنطقي في أداة القياس نعمد الى فحص وتحليل تفصيلي لمكونات أداة القياس وإمكانياتها القياسية، ثم نعمد الى فحص وتحليل تفصيلي لمكونات الظاهرة موضوع القياس وطبيعة عناصرها، ثم المقابلة بين الأداة وموضوع القياس، والوقوف على مدى مطابقة وملاءمة أداة القياس وصلاحيتها لقياس الظاهرة موضوع القياس.
وعلى ذلك فالصدق الظاهري بمثابة نظرة سطحية عامة، والصدق المنطقي هو بمثابة نظرة تحليلية اكثر عمقاً وتفصيلاً.
3 - الصدق الذاتي: ويطلق عليه أيضاً الثبات القياسي، ويتم التأكد من توافر الصدق الذاتي عن طريق القيام باعادة قياس الظاهرة موضوع القياس اكثر من مرة بنفس الاداة، والتأكد من ثبات نتائج القياس وعدم تباينها من مرة الى أخرى، وعلى ذلك فهناك صلة وثيقة بين الصدق الذاتي واشتراط الثبات.
4 - الصدق التجريبي: تقويم فكرة الصدق التجريبي على مدى الارتباط بين نتائج قياسات أداة القياس - التجريبية - ونتائج قياسات أداة قياس أخرى مرجعية، دقيقة ومعروف صدقها وصلاحيتها لقياس الظاهرة موضوع القياس، حيث ان مدى تماثل نتائج قياس ظاهر ما بنتائج قياس أداه القياس المرجعية، يدل على مدى الصدق التجريبي لاداة القياس التجريبية[73]. ويرى بعض الكتاب المتخصصين ان هناك ارتباطاً كبيراً بين كل من صدق أداة القياس وثباتها[74]، وإن كنا نود ان نضيف انه بالرغم من هذا الارتباط، فإن توافر أحدهما في أداة القياس لا يغني عن ضرورة توافر الشرط الآخر لصحة أداة القياس.
ونود ان نشير في هذا الصدد - كذلك - الى ان هذين الشرطين - الثبات والصدق - يجب توافرهما في كل أداة من أدوات القياس اختبارية كانت أم مرجعية[75]، وبدهي أنه بالنسبة لأدوات القياس المرجعية يصدق عليها أنواع الصدق السابق الاشارة اليها فيما عدا الصدق التجريبي، وأي نوع آخر من أنواع الصدق يستلزم توافر أداة قياس مرجعية.
(ب) مدى توافر الشروط العلمية لصحة أدوات القياس بأدوات القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
لقد تعارف الفكر الاداري على استخدام عدد من أدوات ووسائل البحث والقياس في دراسته وبحثه عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، ولعل من أهم أدوات القياس التي استعان بها الفكر الداري المعاصر في هذا السبيل الادوات التالية:
1 - الملاحظة[76]: حيث يعمد الباحث الى ملاحظة سلوك فردين او اكثر في أحد مواقف العمل الجماعي، ورصد وتسجيل مختلف مراحل تطور التفاعل السلوكي داخل هذه الجماعة، بغية الكشف عن العوامل وراء ظهور القيادة وانعقادها لاحد الافراد، والعوامل وراء استمرار انعقادها له او انتقالها وتحولها عنه الى فرد آخر.
2 - الاستقصاء[77]: وكما هو معروف فان الباحث من خلال استمارة الاستقصاء يعمد الى سؤال الفرد عما يعرف أو يعتقد او ما يشعر به أو يرغب فيه او ما يزمع عمله، او ما يفعله، وقد يكون السؤال متعلقاً بالفترة الحالية، وقد يمتد الى الفترة الماضية او الى الفترة المقبلة. وفي مجال البحث عن حقيقة القيادة وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، فان الباحث يستخدم الاستقصاء في توجيه أسئلة لأفراد الجماعات، وسؤال كل عضو من اعضاء هذه الجماعات والحصول على آرائهم ومعتقداتهم ونظرتهم وموقفهم من حقيقة القيادة وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، ومن ذلك سؤالهم ايضاً عن الخصائص والسمات الخاصة المميزة لهؤلاء الافراد القياديين من وجهة نظرهم.
3 - القياسات الاجتماعية (المقاييس السوسيومترية)[78]: وتستخدم القياس الاجتماعي (السوسيومتري) في قياس العلاقات الاجتماعية داخل مواقف العمل الجماعي، والكشف عن مدى التجاذب والتنافر والانحلال والتماسك بين الافراد، كما تكشف عن التنظيمات غير الرسمية.
وتستخدم في مجال القيادة في الكشف عن المكانة القيادية التي يحتلها بعض الافراد داخل مواقف العمل الجماعي، ومكانة بقية اعضاء جماعة العمل فيما يتعلق بالقيادة والانقياد.
4 - دراسة وتحليل تراجم القادة البارزين[79]: ويعمد الباحث هنا الى تحليل ودراسة تراجم القادة البارزين والوقوف على الخصائص والسمات المميزة لكل منهم، والعوامل والظروف الاجتماعية والصحية والاقتصادية المحيطة بكل منهم، ويتم تحديد هؤلاء القادة البارزين على اساس تحكمي الذي قد يختلف من باحث الى آخر، فقد يحدد بعض الباحثين هؤلاء القادة البارزين طبقاً لمدى نجاحهم في تحقيق الاهداف والغايات الخاصة بالجماعات التي ينتمون اليها، ومدى تفوقهم على أقرانهم وتميزهم بالاعمال الممتازة، ويحدد البعض الآخر هؤلاء القادة على اساس مدى الشهرة التاريخية، ويرى البعض ان نجاح القائد في تحقيق الاهداف الاقتصادية هو الاساس في تميز القادة، وقد يرى البعض الآخر ان نجاح القائد في تحقيق الاهداف الاجتماعية والانسانية هو الاساس في تميز القادة.
ووفق هذه الطريقة كثيراً ما يعمد الباحث الى دراسة الوثائق والمخطوطات والرسائل والمذكرات والنشرات والاحصاءات والآثار المتعلقة والمصاحبة لمختلف مراحل نمو هؤلاء القادة البارزين، واللجوء الى الافراد الذين عاصروا هذا القائد وعاشوا معه فترة طويلة من حياته.
5 - دراسة وتحليل السيرة الشخصية (الذاتية) للقادة البارزين[80]: وهذه الطريقة تتكامل، كما انها تتشابه الى حد ما مع الطريقة السابقة، إذ ان المعلومات والبيانات عن القادة البارزين والتي يقوم الباحث بدراستها وتحليلها مستمدة بصفة اساسية من كتابات هؤلاء القادة عن أنفسهم، وتسجيلهم لخبراتهم وتاريخ حياتهم والحوادث الهامة التي مرت بهم، وعلى ذلك فالمعلومات والبيانات هنا تنبع من باطن الفرد ومصدرها كتابات الفرد عن نفسه، ولاشك أنه لايمكن الإعتماد على هذه الطريقة وحدها، ومن ثم فيمكن النظر اليها على إنها وسيلة مكملة للوسيلة السابقة.

تقويم مدى توافر الشروط العلمية بهذه الأدوات:
تلك هي أبرز أدوات ووسائل البحث والقياس التي استعان بها الفكر الاداري المعاصر في دراسته وبحثه عن حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، فإذا أردنا التحقق من مدى توافر الشروط العلمية المطلوبة لصحة أدوات القياس بهذه الادوات لتبين لنا:
1 - بالنسبة لشرط ثبات أداة القياس: ان المشاهد في غالبية أدوات القياس المستخدمة لقياس ودراسة حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، أنها كثيراً ما تختلف وتتباين نتائجها في هذا الصدد من دراسة الى أخرى ومن فترة الى أخرى، ولعل خير شاهد على هذا هو ذلك الاختلاف والتباين المتزامن في مواقف الفكر الاداري المعاصر بأبحاثه ودراساته تجاه حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية.
ولاشك ان ذلك يدعونا للتحفظ تجاه صلاحية أدوات البحث والقياس المستخدمة للكشف عن حقيقة القيادة الادارية، حيث ان هذا يتعارض مع اشتراط ثبات نتائج القياس بالنسبة للظاهرة موضوع القياس، ووجوب عدم تباين واختلاف تلك النتائج تبعاً لتعدد القياسات وتكرارها.
2 - بالنسبة لشرط صدق أداة القياس: فيما يتعلق بالصدق الظاهري والصدق المنطقي فلعلنا لسنا في حاجة الى تكرار ما سبق ان اشرنا اليه من أن طبيعة ظاهرة القيادة الادارية - كظاهرة غير حسية - تحول دون امكانية الوقوف على ماهية وخصائص ومكونات تلك الظاهرة بطريقة مباشرة، ومن هنا فإن الصدق الظاهري والصدق المنطقي يكاد يكون من المستحيل التحقق من توافره نظراً لتعذر اجراء المطابقة بين طبيعة ومكونات أدوات القياس المستخدمة، وطبيعة ومكونات الظاهرة موضع القياس - ظاهرة القيادة الادارية - ولعل هذا يتوافق مع ما ذهب اليه Krelinger من ان عملية قياس الظواهر الاجتماعية والنفسية (الظواهر غير الحسية)، والتي من بينها ظاهرة القيادة الادارية، إن هي الا محاولات احتمالية وظنية اكثر منها قياسات علمية دقيقة[81].
اما فيما يتعلق بالصدق الذاتي (الثبات القياسي)، والذي يرتبط بثبات نتائج القياسات المختلفة للظاهرة الواحدة، فقد سبق ان تبين لنا ان هذا غير متوافر بالنسبة لنتائج قياسات ظاهرة القيادة الادارية. وأخيراً فيما يتعلق بالصدق التجريبي، فإنه يفترض توافر أداة مرجعية - معيارية - معروف صلاحيتها ودقتها، وهذا ما نراه غير متاح - على ضوء ما سبق - بالنسبة لأدوات القياس المستخدمة لقياس ودراسة ظاهرة القيادة الادارية.
ومما سبق يتبين لنا ان أدوات القياس المستخدمة للوقوف على حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، تفتقر لتوافر الشروط العلمية المطلوبة لصحة أدوات القياس.
خامسا: الشروط العلمية لصحة معايير القياس ومدى توافرها في معايير القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
وفي هذا الصدد سوف نقف اولاً على الشروط العلمية الواجب توافرها لصحة معايير القياس، ثم نتحقق بعد ذلك من مدى توافر تلك الشروط بمعايير القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية (نظريات القيادة المعاصرة).
(أ) الشروط العلمية لصحة معايير القياس: لقد سبق ان اشرنا الى عدم وفرة الابحاث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع، إلا انه بالرغم من ذلك فإننا نستطيع تحديد تلك الشروط العلمية الواجب توافرها لصحة معايير القياس عن طريق الوقوف على:
- الشروط العلمية التي وضعها بعض الكتاب لصحة معايير القياس.
- الشروط العلمية الواجب توافرها لصحة كل من النظرية العلمية والتعريف العلمي.
1 - الشروط العلمية التي وضعها بعض الكتاب لصحة معايير القياس:
يرى Wendell French وجوب توافر الشروط التالية في معايير القياس[82]:
الشرط الاول: الحسية: وذلك بان يكون معيار القياس متعلقاً بأمر من الامور الحسية، أي التي تستطيع الوقوف عليها عن طريق الحواس والملاحظة.
الشرط الثاني: العمومية (الشمولية): وذلك بأن يعبر المعيار عن كافة المفردات او العناصر او الحالات الممثلة لظاهرة موضوع القياس.
الشرط الثالث: التمييز: وذلك بان يكون المعيار قادراً على تمييز الظاهرة موضوع القياس عن غيرها من الظواهر. ولقد اشار كاتب آخر الى وجوب توافر الشرطين التاليين بمعيار القياس:
الشرط الاول: وجوب توافر خاصية الثبات[83].
الشرط الثاني: وجوب توافر نقطة صفر حقيقية مطلقة[84].
ولاشك ان هذا الشرط الأخير (توافر نقطة صفر حقيقية)، يتكامل ويترابط مع شرط الحسية السابق الاشارة اليه، فالمعايير باعتبارها صور مجردة، تعبر عن حقيقة ظاهرة من الظواهر، لا نستخلصها من وحي الخيال وانما هي نتيجة رصد ودراسة وتحليل لتلك الصور الحسية، فهي وان كانت صوراً تجريدية الا انها مستمدة من الواقع والخبرة الحسية، فإذا كانت طبيعة موضوع القياس من الظواهر التي من الميسور تحديد نقطة بداية واحدة تستخدم كاساس لقياس جميع مفردات تلك الظاهرة قياساً علمياً، كانت تلك الظواهر تتميز بأن أدوات قياسها تنطلق من وجود نقطة صفر حقيقية، ومن ثم فإن معاييرها تتميز بوجود نقطة صفر حقيقية ايضاً، وهذا ما تتميز به الظواهر الطبيعية المادية، فقياس أوزانها وأطوالها وأحجامها تنطلق اساساً من وجود نقطة صفر حقيقية تمكن من المقارنة الدقيقة والقياس الكمي الدقيق، ويرى بعض الكتاب والمفكرين[85] ان معايير قياس الظواهر النفسية والاجتماعية تفتقر لوجود نقطة صفر حقيقية، بينما يرى الدكتور فؤاد البهي السيد ان هناك محاولات تبذل لايجاد صيغة ما لتحديد الصفر المطلق بالنسبة للقياسات النفسية والاجتماعية[86].
2 - الشرط العلمية الواجب توافرها لصحة كل من النظرية العلمية والتعريف العلمي: مما لا شك فيه ان كلا من النظريات والتعريفات العلمية، ان هي الا معايير نتحاكم اليها عند القيام بتفسير وقياس كثير من الظواهر. ومن اهم الشروط الواجب توافرها في النظرية العلمية الصحيحة[87]:
الشرط الاول: الشمول: وذلك بان تشتمل النظرية على كافة الحقائق التي تتصف بها كافة مفردات الظاهرة موضع الدراسة، وبحيث تساعدنا على التعرف على جميع مفردات هذه الظاهرة وتفسيرها.
الشرط الثاني: الانفراد: حيث يجب ان تنفرد النظرية بتفسير حقائق الظاهرة موضع الدراسة، فوجود نظرية اخرى تقدم تفسيراً آخر لحقائق نفس الظاهرة يضعف الاهمية العلمية لكل من هاتين النظريتين.
كما ان من أ÷م الشروط العلمية الواجب توافرها في التعريف[88] المطابقة لحقيقة الظاهرة موضع التعريف، وذلك بأن يعبر التعريف عن تلك الظاهرة بذكر خصائصها الجوهرية الجامعة المانعة، أي التي تعبر عن الخصائص المشتركة التي تجمع بين كافة مفردات الظاهرة، والتي تفرق في نفس الوقت بين تلك المفردات وغيرها من مفردات الظواهر الاخرى وهذا يعني الشمول والعمومية، وفي الغالب يشتمل التعريف على ذكر الخصائص الايجابية، وفي بعض الحالات قد يمتد ليشمل ذكر بعض الخصائص السلبية إذا لزم الأمر. وعلى ضوء ما سبق نستطيع ان نجمل الشروط العلمية الواجب توافرها في معيار القياس الصحيح فيما يلي:
1 - الحسية: بأن يكون المعيار معبراً عن ظواهر وأمور حسية يمكن ملاحظتها.
2 - العمومية: بأن يكون المعيار معبراً عن جميع مفردات الظاهرة موضوع القياس.
3 - التمييز: بأن يكون المعيار قادراً على تمييز جميع مفردات الظاهرة في غيرها من الظواهر.
4 - الانفراد: بمعنى انفراد المعيار بتفسير الظاهرة موضع القياس وعدم وجود معيار اخر لتفسير نفس الظاهرة.
5 - الثبات: بمعنى استقرار المعيار على صفات او خصائص محددة وعدم التغيير او التبديل في تلك الخصائص او الصفات المعيارية التي تصف الظاهرة موضع القياس من فترة لأخرى.
6 - وجود نقطة صفر حقيقية: أي وجود بداية تستخدم في قياس وتحديد الخصائص والمواصفات المعيارية للظاهرة موضع القياس وتحديد الخصائص والمواصفات المعيارية للظاهرة موضع القياس.
ونستطيع ان نضيف الى ما سبق شرطين آخرين، وفي الحقيقة ان هذين الشرطين قد التمسناهما من تلك الشروط التي يرى أستاذي الدكتور محمد حسن يس ضرورة وجودها وتوافرها لصحة القياس بصفة عامة وهذان الشرطان هما[89]:
7 - التجريدية: أي ان المعيار لا يعبر عن مفردة بعينها او حالة بذاتها من حالات او مفردات الظاهرة موضع القياس، انما هو صورة ذهنية مجردة عن عموم الظاهرة لا ترتبط بصورة حسية بعينها، وان كانت تلك الصورة الذهنية المجردة ان هي إلا نتاج لتلك الصور الحسية المنقولة من مفردات الظاهرة.
8 - الموضوعية: وتعني بهذا عدم تأثر المعيار باختلاف الاشخاص او الجهات القائمة بالقياس، ومن ثم يتطابق ويتوحد معيار الظاهرة لدى كافة الجهاد او الافراد القائمين بالقياس او المشاركين فيه.

(ب) مدى توافر الشروط العلمية بمعايير القياس (نظريات القيادة) المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر: إن تقويم نظريات القيادة في الفكر الاداري المعاصر على ضوء الشروط الواجب توافرها لصحة أي معيار من معايير القياس، يتضح منه مدى الخلل والقصور الذي تعاني منه تلك النظريات، وأنها تفتقر لكثير من الشروط العلمية الواجب توافرها في أي معيار صحيح من معايير القياس، ولعل من ابرز الشواهد الدالة على ذلك افتقار تلك النظريات للاشتراطات التالية:
1 - الحسية: فهذه النظريات تتصدى لتمييز ظاهرة غير حسية.
2 - التمييز: فتعدد تلك النظريات وتباين تفسيرات كل منها لظاهرة القيادة لا يساعد على تمييز حقيقة القيادة.
3 - الانفراد: فهذا التعدد والتباين المتزامن في نظريات القيادة وتفسيراها ابلغ دليل على تخلف هذا الشرط.
4 - الموضوعية: ونلمس ذلك في اختلاف نظريات القيادة وتباينها باختلاف الباحثين، وتباين مدارسهم واتجاهاتهم الفكرية.
5 - الثبات: فالمشاهد ان نظريات القيادة وتفسيراتها في تغير وتطور مستمر من فترة الى اخرى حتى في المجتمع الواحد، وكذلك لدى أصحاب الاتجاه الفكري الواحد.
6 - وجود نقطة الصفر الحقيقية: فالقيادة كظاهرة غير حسية تفتقر قياساتها لوجود نقطة الصفر الحقيقية.
ولاشك ان افتقاد نظريات القيادة في الفكر الاداري المعاصر لتلك الشروط العلمية يعطي الدليل على عدم صلاحية تلك النظريات لان تكون معياراً لتفسير حقيقة ظاهرة القيادة، كما نود ان نلفت النظر الى ان هذا الوضع ليس قاصراً على ظاهرة القيادة، بل إنه يمتد ليشمل كافة الظواهر الاجتماعية والنفسية التي تعاني من افتقارها لتواجد معايير القياس الصحيحة، ولقد سبق ان اشار الى هذا Wendell French [90].
ولعلنا ندرك الآن السبب وراء عزوف غالبية المفكرين والباحثين عن التصدي لدراسة معايير قياس ظاهرة القيادة الادارية وشروطها العلمية، فتلك الصعوبات والتحفظات التي تعترض عملية الوقوف على معايير قياس تلك الظاهرة - وغيرها من الظواهر غير الحسية - هي السبب الرئيسي وراء مثل هذا العزوف من جانب هؤلاء المفكرين والباحثين الذين نجدهم في ذات الوقت الذي يولون فيه اهتماماً كبيراً بأدوات القياس والتحقق من توافر شروطها العلمية في أبحاثهم، نجدهم يغمضون أعينهم ازاء عدم توافر الشروط العلمية في معايير قياساتهم لتلك الظواهر، والدليل على ذلك ان كلاً منهم راح يتحاكم الى نظرية من نظريات القيادة الادارية ارتضاها ان تكون هي دون غيرها معياراً له في تفسير حقيقة تلك الظاهرة والحكم عليها، دون ان يكلف نفسه عناء البحث عن مدى توافر الشروط العلمية الواجب توافرها في معايير القياس بتلك النظرية، بل إننا نرى ان مجرد اعمال المنطق الذي يقضي بأن الحقيقة لا يمكن ان تتعدد او تتباين فضلاً عن ان تتزامن كان يستوجب، في ظل هذا التعدد والتباين في النظريات التي تصدت لتفسير حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، كان يستوجب من أي باحث منصف لنفسه وللحقيقة ان يتشكك في صلاحية أية نظرية من هذه النظريات لان تكون معياراً صحيحاً لتفسير حقيقة ظاهرة القيادة الادارية. وعلى ضوء العرض السابق للشروط العلمية الواجب توافرها في العناصر المختلفة لعملية القياس يتبين لنا، ان تلك الشروط تكاد تكون مفتقدة في عناصر عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية حيث اتضح لنا:
(أ) ان ظاهرة القيادة الادارية كظاهرة غير حسية هي بحكم طبيعتها وفي حدود القدرات الانسانية لا يمكن ان تكون موضوعاً للقياس العلمي المباشر من قبل الانسان، وان القياس غير المباشر لتلك الظاهرة والمتمثل في الرصد والتحليل الجزئي لبعض جوانب السلوك، والاستدلال منه على حقيقة ظاهرة القيادة الادارية إن هو إلا محاولات ظنية - افتراضية - لا ترتقي لمستوى القياس العلمي.
(ب) إن أدوات القياس المستخدمة لقياس ظاهرة القيادة الادارية تفتقد الشروط العلمية لصحة أدوات القياس: الصدق والثبات، ولاشك ان هذا قد جاء نتيجة تصدي تلك الادوات لقياس ظواهر إنسانية، نفسية واجتماعية، ليس في مكنة الانسان قياسها قياساً علمياً دقيقاً سواء بطريق مباشر او غير مباشر.
(ج) ان معايير القياس المستخدمة في قياس وتفسير حقيقة ظاهرة القيادة الادارية تفتقد كثيراً من الشروط العلمية لصحة معايير القياس، بل ان بعض الباحثين والدارسين كثيراً ما يتجاهلون امر تلك المعايير في قياساتهم لتلك الظواهر.
وينبغي ان نشير هنا الى ان هناك ارتباطاً كاملاً بين أي خلل في أي عنصر من هذه العناصر ونتيجة القياس النهائية وان دقة وصحة بعض العناصر بالغاً مابلغت لا تغني عن وجود أي خلل ولو في عنصر واحد من هذه العناصر فعملية القياس هنا اشبه بسلسلة من الحلقات المتصلة تقاس قوتها ومتانتها بقوة ومتانة أضعف حلقاتها.
وهذا القول ينطبق على مدى صحة عملية القياس بصفة عامة وارتباطها بمدى صحة كافة عناصرها، وينطبق كذلك على مدى صحة أي عنصر من عناصر عملية القياس وارتباطها بمدى توافر كافة شروطه العلمية، ومن ثم فإن مجرد تخلف أي شرط من الشروط العلمية المطلوبة لصحة أي عنصر من عناصر القياس يؤثر على دقة النتائج النهائية لعملية القياس، فما بالنا والامر في جال قياس ظاهرة القيادة الادارية لا يتعلق بتخلف شرط واحد من الشروط العلمية المطلوبة لصحة عنصر من هذه العناصر، ولكن الخلل يكاد يشمل كافة عناصر عملية القياس، حيث تفتقر هذه العناصر لكثير من الشروط العلمية.

سادسا: الشروط العلمية لصحة بقية عناصر القياس، ومدى توافرها في بقية عناصر القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
بالاضافة الى عناصر القياس السابق الاشارة اليها فإن بعض الباحث[91] قد اشار الى عنصر آخر من عناصر عملية القياس وهو الشخص او الجهة القائمة بالقياس، ولقد تعرض احد هؤلاء الباحثين للشروط الواجب توافرها في الشخص او الجهة القائمة بالقياس، ورأى وجوب توافر الشروط التالية[92]:
(أ) ضرورة إلمام الشخص او الجهة القائمة بالقياس بكافة خصائص الظاهرة موضع القياس وإلمامه بجميع الظروف والعوامل المؤثرة على قياس تلك الظاهرة بشكل واضح ومحدد ودقيق.
(ب) ان تتوافر لدى القائم بالقياس العدالة والموضوعية في القياس.
(ج) ضرورة اقتناع القائم بالقياس - بأهمية وضرورة عملية القياس.
ونود ان نضيف هنا ان الشخص او الجهة القائمة بالقياس قد يمتد دورها ليشمل القيام باستخدام أدوات القياس بالاضافة الى تطبيق المعايير واستخلاص النتائج، وقد يقتصر دورها على أي منهما، وهذا هو المشاهد في بعض الأبحاث والدراسات، حيث يتواجد باحث او أكثر معنيون بدراسة ظاهرة ما يعاونهم في اجراء الدراسة مجموعة من جامعي البيانات الذين يقتصر عملهم على استخدام أدوات القياس وجمع البيانات فقط، أما دور مجموعة الباحثين، فيتمثل في تحليل نتائج عمل جامعي البيانات وتفسير تلك النتائج على ضوء المعايير المتوافرة لديهم عن الظاهرة موضع القياس.
وبالإضافة الى العنصر السابق فإن هناك عنصراً آخر من عناصر عملية القياس يكاد يكون بدهياً من البدهيات، ولفرط بدهيته يكاد يغفل عنه غالبية المفكرين والباحثين في معرض حديثهم عن عناصر عملية القياس، هذا العنصر هو الجهة او الشخص الواضع لمعيار وأدوات قياس الظاهرة موضع القياس، فلقد تعارف الفكر الانساني على أن الصانع هو أحق وأقدر الجهات على وضع وتحديد كل من المعيار الصحيح، وأداة القياس الصحيحة، ونلحظ هذا واضحاً جلياً من استقراء ما تعارف عليه الافراد والجماعات في مختلف المجتمعات، وخاصة في العصر الحديث، حيث نلجأ عادة الى الجهة المنتجه للآلة او الجهاز وشاهدنا على ذلك تلك الكتيبات والنشرات المرفقة بالاجهزة والمعدات الحديثة التي تصدرها جهة الصنع تحدد فيها ماهية تلك الاجهزة واستخداماتها ومواصفاتها وخصائصها وطرق وأدوات تشغيلها وطرق وأدوات ضبطها وصيانتها، والمشاهد انه كلما ازدادت الآلة تعقيداً تزايدت الحاجة الى تلك الكتيبات والنشرات، والتي بدونها لا يستطيع كثير من الناس الوقوف على حقيقة إمكانات تلك الاجهزة ومجالات استخداماتها والطرق الصحيحة لتشغيلها، ناهيك عن الطرق الصحيحة لضبطها وصيانتها.
واذا نظر الانسان الى ذاته يجد نفسه امام ظاهرة من اعقد الظواهر، وعلى ذلك فإن الانسان إذا أراد الوقوف على حقيقة ذاته وحقيقة تلك الجوانب النفسية والاجتماعية للافراد والجماعات، فإن الانصاف يقتضي منه - وبمقتضى ما تعارف عليه هو نفسه - ألا يتحاكم الى نفسه في تلك الامور المتعلقة بخاصة نفسه، وان العدل والانصاف يقتضيان منه كمخلوق أن يلجا الى خالقه سبحانه - يطلب منه ان يرشده، ويعينه على فهم وإدراك حقيقة نفسه وحقيقة تلك الظواهر النفسية والاجتماعية للافراد والجماعات الانسانية.
ومن هنا يتبين لنا سبب آخر من اسباب قصور عمليات قياس ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر، فإذا كان الانسان وبمقتضى ما تعارف عليه يقر بان الصنعة هي آخر من تصلح لوضع وتحديد معايير وأدوات قياسه، فعليه ان يقر بأنه كمخلوق هو آخر من يصلح لوضع وتحديد معايير وأدوات قياس تلك الظواهر النفسية والاجتماعية، وأن هذا الخلل والانقسام التباين في الآراء والمواقف حول حقيقة القيادة الادارية إن هو إلا نتاج تحاكمه الى نفسه في تلك الامور المتعلقة بحقيقة ذاته، وحقيقة تلك الجوانب النفسية والاجتماعية للافراد والجماعات الإنسانية.
هذا فيما يتعلق بتحليلنا وتقويمنا للشروط العلمية الواجب توافرها في مختلف عناصر عمليات القياس المستخدمة في الكشف عن حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية.
ومن ثم فإنه على ضوء ما سبق من تحليل لعناصر القياس المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية والكشف عن حقيقتها، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، يتأكد لنا مدى افتقاد هذه القياسات للشروط العلمية المطلوبة لصحة عناصرها، ومن ثم يتأكد لنا صدق الشطر الثاني من الفرض الاول، والذي يرجع الاختلاف والتباين - المتزامن -  في مواقف الفكر الاداري المعاصر تجاه حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية الى قصور عمليات القياس المستخدمة في هذا الصدد. وبناء على هذا يكون قد اكتمل لنا التحقق من صحة الفرض الاول، ومن جماع ما انتهينا اليه خلال الفصول من الاول الى الرابع يتبين لنا الآتي:
(أ) وجود اختلاف وتباين في مواقف الفكر الاداري المعاصر تجاه حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، فضلاً عن ذلك قد وجد ان هذا الاختلاف والتباين متزامن.
(ب) أن مرد هذا الاختلاف والتباين - المتزامن - في مواقف الفكر الاداري المعاصر تجاه حقيقة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، إنما يعود الى قصور كل من مناهج البحث وعمليات القياس المستخدمة لدراسة القيادة الادارية، حيث يتبين لنا مدى افتقار تلك المناهج والقياسات للكثير من الشروط العلمية الضرورية لصحة مناهج البحث وعناصر عمليات القياس.
(ج) أن الفكر الإنساني والاداري بما تعارف عليه من ان الصانع هو أحق وأقدر الجهات على وضع وتحديد أدوات ومعايير قياس ما صنع قد أوجب على نفسه التحاكم الى خالق الانسان في الامور المتعلقة بحقيقة الانسان وحقيقة تلك الجوانب الاجتماعية والنفسية للأفراد والجماعات الانسانية والتي من بينها ظاهرة القيادة الادارية.
واذا كان هذا هو واقع حال مناهج البحث والقياس الوضعية، وبصفة خاصة واقع حال المنهج العلمي وما أسفر عنه من معايير في مجال الكشف عن حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، فماذا عن الشريعة الاسلامية خاصة إذا علمنا انها تشتمل على كثير من الاحكام والقواعد المنظمة والمقننة للمجالات الاجتماعية والنفسية، بل إننا نعتقد انها تضم كثيراً من الاحكام والقواعد المتعلقة بظاهرة القيادة الادارية ومقوماتها وعناصرها القيادية..؟
إن هناك دلائل علمية قوية تشير الى ان الشريعة الاسلامية في هذه المجالات يتوافر لها من الشروط العلمية المطلوبة لصحة مناهج البحث ومعايير القياس مالم ولن يتوافر في مناهج البحث ومعايير القياس الوضعية، وإننا اذا كنا نبحث عن مدخل صحيح يعالج قصور مناهج البحث ومعايير القياس الوضعية في هذه المجالات، فإن هذا المدخل يتمثل في التحاكم الى الشريعة الاسلامية، ونتناول فيما يلي الدلائل العلمية الدالة على ذلك.

سابعاً: الدلائل العلمية على توافر الشروط العلمية لصحة معايير القياس ومناهج البحث في الشريعة الاسلامية في المجالات الاجتماعية والنفسية:
(أ) الدلائل على توافر الشروط العلمية لحصة معايير القياس في الشريعة الاسلامية: سبق ان اشرنا هنا الى ان الشريعة الاسلامية في المجالات الاجتماعية والنفسية يتوافر بها من الشروط العلمية المطلوبة لصحة معايير القياس مالم ولن يتوافر في معايير القياس الوضعية، ولعل من اهم الشروط العلمية التي تتوافر في الشريعة الاسلامية وتفتقدها المعايير الوضعية المتعلقة بهذه المجالات الاشتراطات التالية:
1 - شرط الموضوعية: سبق ان تبين لنا كيف ان المعايير الوضعية تفتقد توافر شرط الموضوعية في مجال القيادة الادارية - وغيرها من الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة، حيث إنها تتباين وتختلف باختلاف الاشخاص او الجهات، بل انها تختلف لدى الشخص الواحد من فترة الى أخرى، وان كان هذا هو واقع الفكر الوضعي، فإن الشريعة الاسلامية تتميز بموضوعية أحكامها ومعاييرها، وبعدم خضوعها لاهواء او رغبات او اتجاهات او اعتقادات أي فرد من الافراد او جماعة من الجماعات، فهؤلاء جميعاً مهما بلغت أهميتهم ومكانتهم وبالغاً ما بلغت علومهم وثقافتهم لا يملكون تغيير حكم من أحكام تلك الشريعة بحكم مغاير او حتى استبدال حرف بحرف، فها هو القرآن الكريم ينطق بالحق والبعد عن الاهواء، لم يتغير فيه حرف او حكم تحت أي ظرف من الظروف منذ ان اكتملت أحكامه وتشريعاته من يوم نزول قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (اليوم أكلت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام ديناً)[93]
فهذا التبديل او التغيير في آيات وأحكام القرآن الكريم يستحيل في حق الكتاب الكريم، فهو محفوظ بعيد عن الغرض او الاهواء، وها هو القرآن الكريم يعلن استحالة ذلك حتى على رسول الله (ص)، ومن شاء فليقرأ قول الحق سبحانه لرسوله الكريم رداً على الكفار، إذ يطلبون من رسول الله (ص) ان يأتيهم بقرآن غير هذا او يبدله، فيأمره الحق سبحانه ان يقول لهم وللناس أجمعين.
(قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى الي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)[94].
2 - شرط الانفراد وهو ايضاً من الشروط التي تفتقدها المعايير الوضعية في مجال القيادة - وغيرها من الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة - ولعل خير شاهد على هذا - وكما سبق ان بينا - هو هذا التعدد والتباين في نظريات وتعريفات القيادة ومقوماتها وعناصرها القيادية، فتلك المعايير الوضعية تتعدد وتتباين من جهة الى أخرى ومن باحث الى آخر، والاكثر من ذلك ان هذا التعدد والتباين يتصف بصفة التزامن، وعل خلاف ذل تماماً أحكام الشريعة الاسلامية، فالتحاكم في أي قضية من القضايا او أي أمر من الامور إنما يكون الى القرآن الكريم، فإن لم نجد فيه حكماً فيتم التحام الى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن لم نجد فيها حكما فيتم التحاكم الى اجتهاد العلماء والفقهاء، فإن اختلفوا فيجب رد الامر مرة أخرى الى كتاب الله والتحاكم الى قواعده واصوله العامة لدرء مثل هذا الخلاف[95]، وذلك مصداقاً لقوله تعالى في القرآن الكريم: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله، ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب)[96].
وقوله سبحانه وتعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)[97]، فالاسلام منهج يحرص على الوحدة والوحدانية، وينبذ أي اختلاف وتباين في المواقف او الاحكام تجاه الامر الواحد او القضية الواحدة، فأين من هذا واقع الفكر الوضعي بمعاييره وأحكامه ومواقفه تجاه حقيقة القيادة الادارية وغيرها من الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة؟!.
3 - شرط الثبات: وهذا الشرط أيضاً - وكما سبق وتبين لنا تفتقده المعايير الوضعية في القيادة الادارية، حيث تبين لنا ان نظريات القيادة وتفسيراتها لحقيقة القيادة تتغيير وتتباين من مذهب لآخر ومن مدرسة فكرية لأخرى، بل إنها تتباين وتختلف لدى أصحاب الاتجاه الفكري الواحد من فترى الى أخرى، اما أحكام وقواعد الشريعة الاسلامية المنظمة والمقننة للمجالات الاجتماعية والنفسية، فتتميز بالثبات وعدم التبدل او التغير باختلاف الازمنة او الامكنة، وذلك منذ ان اكتمل التشريع الاسلامي، وأعلم الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بهذا، فأنزل عليه: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتمت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام ديناً)[98]. وصدق الحق سبحاه إذ يقول في وصف القرآن الكريم[99]. (وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم)[100].
وعلى ذلك فأحكام الشريعة الاسلامية ثابتة ومستقرة منذ ذلك اليوم وحتى تقوم الساعة، ولا تملك أي جماعة إسلامية او أي مفكر اسلامي مهما بلغ علمه ان يبدل في تلك الاحكام او يغير فيها، فتلك الشريعة وضعت قواعد وأحكام عامة في بعض الجوانب او المجالات وتفصيلية في بعض الجوانب او المجالات الاخرى، ولكنها في كل المجالات والأحوال إنما وضعت لتواجه كافة الاحوال والظروف مهما اختلفت الازمنة والأمكنة، فأين من هذا تلك المعايير الوضعية، وهذا التغيير والتبديل فيها من ظرف لآخر ومن باحث الى آخر، بل لدى الباحث الواحد من فترى الى اخرى؟!
أين هذا من القرآن الكريم الذي تكفل الخالق سبحانه بحفظه من التغيير أو التبديل وصدق فيه قول الحق سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[101].
أما بالنسبة لبقية الشروط العلمية المتعلقة بمعايير القياس، فيمكن ان نتبين الآتي:
1 - فيما يتعلق بشرط الحسية: فبدهي ان هذا الشرط يصدق فقط بالنسبة للظواهر الطبيعية والمادية - الحسية - ولا يتصور وجوب توافره في المعايير المتعلقة بالظواهر غير الحسية - الاجتماعية والنفسية.
2 - وفيما يتعلق بكل من شرط: العمومية والتمييز، والتجريدية، ووجود نقطة صفر حقيقية، فنحن نرى ان من الصعب التحقق من توافر او عدم توافر تلك الشروط بالنسبة لمعايير القياس المتعلقة بالظواهر غير الحسية.
وعلى ذلك لا يتبقى من شروط معايير القياس المتعلقة بالظواهر غير الحسية إلا الشروط العلمية السابق الاشارة اليها، والتي تبين انها وإن كانت غير متوافرة - بل ولن تتوافر - في معايير القياس الوضعية، فإنها متوافرة في الشريعة الاسلامية.
(ب) الدلائل على توافر الشرط العلمي لصحة مناهج البحث في الشريعة الاسلامية: سبق ان اشرنا الى ان التحاكم الى شرط او معيار النفعية والضرورة العملية هي التي جعلت الفكر الانساني يسلم بصحة مسلمات المنهج العلمي الثلاث[102]، ومن ثم صلاحيته للاستخدام في الكشف عن حقيقة الظواهر الطبيعية والمادية، وأن التحاكم الى ذات المعيار هي التي جعلتنا نتحفظ على صلاحية استخدام هذا المنهج في الكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية - ومن ثم الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة - وعلى ذلك فإن التحقق من مدى توافر هذا المعيار - معيار النفعية والضرورة العملية بالشريعة الاسلامية سيجعلنا نتبين مدى توافر الشرط العلمي لصحة مناهج البحث بالشريعة الاسلامية الغراء.
فإلى أي مدى يصدق معيار النفعية والضرورة العملية على الشريعة الاسلامية؟ لعل خير شاهد في هذا الصدد هو التحام الموضوعي الى التشريعات والاحكام والقواعد والمبادئ الاسلامية في المجالات الاجتماعية والنفسية، والتحقق من مدى نفعيتها او عدم نفعيتها للفرد او الجماعة، فأي باحث موضوعي – بغض النظر عن انتماءاته الدينية – يستطيع ان يتبين بجلاء ان كافة أوامر الشريعة الاسلامية تعمل على تحقيق كل ما فيه خير الفرد والجماعة، وكل نواهي الشريعة الاسلامية إنما تنهى عن كل ما فيه ضرر بالفرد او بالجماعة، أنها على سبيل المثال لا الحصر تأمر بما يلي:
1 - أنها تأمر بالتعاون الايجابي الخير: والآية على ذلك قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (سورة المائدة: الآية 2)
2 - أنها تأمر بالوحدة وعدم الفرقة:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (سورة آل مران: الآية 103)
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) (سورة آل عمران: الآية 105)
3 - أنها تأمر بالصدق في الحديث وعدم الكذب على الآخرين:
والآية على ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (سورة التوبة: الآية 119).
(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) (سورة النحل: الآية 105).
(إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) (سورة غافر: الآية 28)
4 - أنها تأمر بستر عورات الغير: والآية على ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم (رياض الصالحين للامام النووي ص 118).
5 - أنها تأمر بقضاء حوائج الناس وتفريج كربات الآخرين: والآية على ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة). (رياض الصالحين للإمام النوني ص119)
6 - أنها تأمر بالاصلاح بين الناس: والآية على ذلك قوله تعالى:
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (سورة الانفال: الآية 1)
(إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم) (سورة الحجرات: الآية 10)
7 - أنها تأمر بإحسان الازواج الى الزوجات:
والآية على ذلك قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) (سورة النساء: الآية 20).
(فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان) (سورة البقرة: الآية 229).
وقول رسول الله (ص): (واستوصوا بالنساء خيرا) (رياض الصالحين للإمام النووي، ص131).
8 - أنها تأمر بالاحسان الى الوالدين والبر بهما خاصة عند الكبر: والآية على ذلك قوله تعالى:
(وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) (سورة الاسراء: الآيات 23، 24).
9 - انها تأمر بصلة الارحام والاحسان للجار واليتيم والمسكين وسائر الضعفاء:
والآية على ذلك قوله تعالى: (وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) (سورة النساء: الآية 36).
(فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) (سورة الضحى: الآية 9، 10)
10 - أنها تأمر بملازمة ومصاحب الصالحين من الناس: والآية على ذلك قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (سورة الكهف: الآية 28)
وقول رسول الله (ص): (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافر الكبر) (رياض الصالحين للامام النووي، ص163)
(الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). (رياض الصالحين للامام النووي ص164).
(المرء مع من أحب) (رياض الصالحين للامام النووي ص 164).
11 - أنها تأمر وتحض على العمل النافع المتقن: والآية على ذلك قوله تعالى:
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (سورة التوبة: الآية 105)
(فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله) (سورة الجمعة: الآية 26)
(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (سورة الزلزلة: الآية 7، 8)
(إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً) (سورة الكهف: الآية 30)
(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة). (سورة النحل: الآية 97)
وقول رسول الله (ص): (لأن يحتطب احدكم خيراً من ان يسال الناس أعطوه أو منعوه) (رواه البخاري).
(عبد السميع المصري، مقومات العمل في الاسلام، الظاهر: مكتبه وهبة ص18)
(أحل ما أكل العبد كسب الصانع إذا نصح) (المرجع السابق ص27).
(إذا عمل أحدكم عملاً أحب الله ان يتقنه) (المرجع السابق ص47).
12 - أنها تأمر بحرية العقيدة والدعوة الى الخير بالحسنى: والآية على ذلك قوله تعالى: (لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (سورة البقرة: الآية 256).
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (سورة الكهف: الآية 29)
(اجع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (سورة النحل: الآية 125)
13 - أنها تأمر وتحث على طلب العلم: والآية على ذلك قوله تعالى: (وقل رب زدني علماً) (سورة طه: الآية 114)
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (سورة المجادلة: الآية 11)
14 - أنها تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم: والآية على ذلك قوله تعالى:
(إن الله يأمر بالعدل والاحسان) (سورة النحل: الآية 90)
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (سورة النساء: الآية 58)
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) (سورة الأنعام: الآية 152)
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة: الآية 8)
(والله لا يحب الظالمين) (سورة آل عمران: الآية 140)
(ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً) (سورة الفرقان: الآية 19)
15 - أنها تأمر بالرحمة وعدم القسوة والغلظة في التعامل مع الآخرين: والآية على ذلك قوله تعالى:
(كتب ربكم على نفسه الرحمة) (سورة الأنعام: الآية 54)
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (سورة الانبياء: الآية 107)
(وتواصلوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (سورة البلد: الآية 17)
(فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (سورة الزمر: الآية 22)
16 - أنها تامر بالامانة في التعامل عند البيع او الشراء: والآية على ذلك قوله تعالى:
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) (سورة الانعام: الآية 152)
(واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (سورة الرحمن: الآية 9)
(قل أمر ربي بالقسط) (سورة الاعراف: الآية 29)
(ويل للمطففين الذين آذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)
(سورة المطففين: الآيات 1 - 3)
17 - أنها تامر بالرفق بالحيوان: والآية على ذلك قول رسول الله (ص):
(عذبت امرأة في هرة) (رياض الصالحين للامام النووي، ص529)
(لعن: من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً) (المرجع السابق، ص 530)
18 - أنها تأمر بإفشاء السلام: والآية على ذلك قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها).
(سورة النور: الآية 27)
(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (سورة النساء: الآية 86)
وقول رسول الله (ص):
(يا أيها الناس: افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (رياض الصالحين للإمام النووي ص33).
19 - أنها تأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والآية على ذلك قوله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
(سورة آل عمران: الآية 110)
(يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) (سورة لقما: الآية 17)
20 - تأمر بالمساواة بين البشر جميعاً: والآية على ذلك قوله تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (سورة الحجرات: الآية 13)
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم) (سورة الحجرات: الآية 11)
21 - وتأمر أولاً وأخيراً بعبادة الله وحده، وتنهى عن عبادة الأوثان والاصنام:
والآية على ذلك قوله تعالى:
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) (سورة البقرة: الآية 21)
(يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) (سورة الاعراف: الآية 59)
(انما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكا) (سورة العنكبوت: الآية 17)
(ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) (سورة يوسف: الآية 40)
هذه بعض من النماذج نقدمها على سبيل المثال لا الحصر عن الاوامر التي جاءت بها الشريعة الاسلامية، أما عن النواهي التي تضمنتها فتلك أمثلة منها:
1 - أنها تنهى عن الفحش في القول والفعل: والآية على ذلك قوله تعالى:
(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (سورة الانعام: الآية 151)
(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (سورة الاعراف: الآية 33)
وقول رسول الله (ص):
(ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ)
رواه الترمذي (رياض الصالحين للإمام النووي، ص565)
(ما كان الفحش في شيء إلا شأنه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه)
رواه الترمذي (المرجع السابق، نفس الموضع)
2 - أنها تنهى عن الخمر والميسر والانصاب والازلام: والآية على ذلك قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (سورة المائدة: الآية 9)
3 - أنها تنهى عن الربا: والآية على ذلك قوله تعالى:
(يمحق الله الربا ويربي الصدقات) (سورة البقرة: الآية 276)
(وأحل الله البيع وحرم الربا) (سورة البقرة: الآية 275)
4 - أنها تنهى عن الزنا: والآية على ذلك قوله تعالى:
(ولا تقربوا الزني إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) (سورة الاسراء: الآية 32)
5 - أنها تنهى عن النفاق والخداع: والآية على ذلك قوله تعالى:
(إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً). (سورة النساء: الآية 145)
6 - أنها تنهى عن البخل. والآية على ذلك قوله تعالى
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) (سورة آل عمران الآية 180)
7 - أنها تنهى عن الاسراف والتبذير: والآية على ذلك قوله تعالى
(ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً).
(سورة الاسراء: الآية 27)
8 - أنها تنهى عن التطفيف في الكيل والميزان: والآية على ذلك قوله تعالى:
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين) (سورة الشعراء: الآية 183)
(والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان) (سورة الرحمن: الآية 7، 8)
(ويل للمطففين) (سورة المطففين: الآية 1)
9 - انها تنهى عن أكل الميتة: والآية على ذلك قوله تعالى:
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع الا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالازلام ذلك فسق) (سورة المائدة: الآية 3)
10 – أنها تنهى عن القتل بصفة عامة وقتل الاولاد أو البنات بصفة خاصة:
والآية على ذلك قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (سورة الاسراء: الآية 33)
(ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً) (سورة الاسراء: الآية 31)
(وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) (سورة التكوير: الآية 8)
11 - أنها تنهى عن السرقة: والآية على ذلك قوله تعالى:
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم).
(سورة المائدة: الآية 38)
12 - أنها تنهى عن الغش: والآية على ذلك قول رسول الله(ص): (من غشنا فليس منا)
13 - أنها تنهى عن التكبر والبغي والظلم: والآية على ذلك قوله تعالى
(فلا تزكوا أنفسكم) (سورة النجم: الآية 32)
(إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)
(سورة الشورى: الآية 42)
14 - أنها تنهى عن تعذيب النفس الانسانية: (والآية على ذلك قول رسول الله (ص):
(إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) (رياض الصالحين للامام النووي، ص531)
15 - أنها تنهى عن أكل اموال اليتامى: والآية على ذلك قوله تعالى:
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)
(سورة النساء: الآية 20)
16 - أنها تنهى عن قول الزور: والاية على ذلك قوله تعالى:
(واجتنبوا قول الزور) (سورة الحج: الآية 30)
17 - أنها تنهى عن التجسس والغيبة: والآية على ذلك قوله تعالى:
(ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً) (سورة الحجرات: الآية 12)
18 - أنها تنهى عن عقوق الوالدين: والآية على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الامهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (رياض الصالحين للامام النووي ص153).
(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) (المرجع السابق ص152).
وبعد: فهذه النماذج والامثلة تعد خير شاهد على ان الشريعة الاسلامية في المجالات الاجتماعية والنفسية لا تأمر إلا بكل ما فيه نفع وخير الفرد والجماعة، وأنها لا تنهى إلا عن كل ما فيه اضرار بالفرد والجماعة، وعلى هذا يتبين لنا مدى نفعية تحاكم الانسان اليها، بل إن تلك النفعية تمتد لتشمل مجال العبادات، ومن ذلك على سبيل المثال:
(أ) أن الصلاة وما يسبقها من وضوء تعين الفرد على تعود النظام والنظافة والمحافظة على المواعيد وتزيد من التآلف بينه وبين الآخرين، هذا فضلاً عن أنها بمثابة رياضة تفيد الجسم.
(ب) أن الصوم: يكسب الفرد القدرة على الصبر والانتصار على شهوات النفس.
(ح) ان الزكاة: تزكى نفس المزكى من الشح والاثره، وتزكى نفس المزكى له من الحسد والحقد والضغينة، وتساعد على خلق الجماعة المتحابة المتآلفة.
(د) أن الحج: يعد بمثابة أكبر تجمع إنساني عالمي يعقد سنوياً، وفيه يسود مظهر الوحدة والتجانس بين المجتمعين جميعا، وتتبادل فيه المنافع.
هذا قليل من كثير من بعض ما في الاسلام من نفع للإنسان على مستوى الفرد والجماعة، ولقد تحاكم المسلمون في صدر الاسلام الى تلك الشريعة والتزموا بها، فانتقلت بهم من حال التخلف والتنافر والتناحر والبغضاء والكراهية والجاهلية بأسوأ ما فيها الى حال التقدم الحضاري والتواد والتآلف والحب والتعاون وعبادة الله وحده بكل ما فيها من راحة وسكينة، فسعد الفرد وتقدمت الجماعة الاسلامية وسمت وعلت، وأخذت مكانها في مقدمة الركب الانساني الى العلم والحضارة، وشواهد الواقع الاحصائي لمختلف تاريخ الحضارات الانسانية هي خير آية على التقدم الانساني والحضاري الذي حققته الامة الاسلامية بتحاكمها الى الاسلام، ولعل خير شاهد على ذلك هو تلك الكلمات للعلامة بوش[103]:
(ان المدنية الاوروبية، بل المدنية الغربية كلها مدينة للمسلمين، ومن المدهش ان يصبحوا وكانوا أول أمرهم على الفطرة عنصراً فاتحاً ويعتبروا سادة لنصف العالم في مائة عام، ومن اشد العجب حماستهم العظيمة وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم، حتى وصلوا الى مستوى عال في مائة سنة، بينما نرى الجرمانيين لما فتحوا الامبراطورية الرومانية قضوا الف عام قبل ان يقضوا على التوحش وينهضوا لاحياء العلوم).
ولاشك ان تلك النقلة، بل القفزة الحضارية والانسانية التي استطاع رسول الله (ص) ومن بعده الخلفاء الراشدون تحقيقها والانتقال بالامة الاسلامية من مجتمع تسوده الفرقة الشديدة والعصبية التقدة والتنافر والتناحر والفقر والحدب الى مجتمع بلغ اقصى الغاية في الاتحاد والاندماج والاخاء والصفاء، وكانوا مثالاً على حسن الانتظام وحسن الطاعة والانقياد للحاكم الأعلى للأمة، ولولاة الامصار والاقطار، لاشك ان هذا التطور والرقي الحضاري الذي يشهد به أي دارس منصف لتلك الحقبة من التاريخ التي تم خلالها اعادة صياغة هؤلاء الشراذم من الاميين فجعل منهم خير أمة، ودانت لهم حضارة سمت وعلت على غيرها من الحضارات المعاصرة.
ولعل ما يؤكد صدق عظمة المنهج القرآني والشريعة الاسلامية ان ذلك التقدم الحضاري والانساني الذي حققته الامة الاسلامية بقيادة الرسول الكريم وخلفائه من بعده قد دام مادام تمسكها بذلك المنهج، ومادام حرصها على تطبيقه وتنفيذه، وأنها قد ضلت طريقها الى هذا التقدم الحضاري والانساني يوم أن انصرفت عن التحاكم الى المنهج الاسلامي وتحولت عن تطبيق أحكامه ومبادئه وتوجيهاته، فانزوت بين الامم وقل شانها وشأن أفرادها.
وعلى ذلك فإن هذا التلازم في التغيير بين الاحتكام او عدم الاحتكام الى المنهج الاسلامي وحال الأمة الاسلامية إنما يعطي خير دليل على صلاحية استخدام هذا المنهج ووجوب التحاكم اليه في شتى الامور والنواحي التي تناولها، خاصة تلك الامور المتعلقة بالنواحي الاجتماعية والنفسية للأفراد والجماعات، وذلك من منطلق التحاكم الى معيار النفعية والضرورة العملية.
وبعد: فتلك هي أبرز الدلائل على توافر الشروط العلمية لصحة مناهج البحث ومعايير القياس بالشريعة الاسلامية، ومن هذا المنطلق فإننا نخطب عموم الباحثين مسلمين وغير مسلمين الذين يتحاكمون الى المنهج العلمي ومعاييره للوقوف على حقيقة القيادة الادارية - وغيرها من الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة - بوجوب نبذ هذا التحاكم على ضوء افتقاد هذا المنهج ومعاييره في هذه المجالات للشروط العلمية، ووجوب التحاكم الى الشريعة الاسلامية وما تضمنته من معايير للوقوف على حقيقة القيادة الادارية وغيرها م الظواهر الاجتماعية والنفسية المماثلة - وذلك بمقتضى التحاكم للشروط العلمية المطلوبة لصحة مناهج البحث ومعايير القياس، والتي تبين لنا انها وإن كانت مفتقدة في مناهج ومعايير القياس الوضعية المستخدمة في المجالات الاجتماعية والنفسية، فإنها متوافرة في الشريعة الاسلامية وأحكامها ومعاييرها المتعلقة بالمجالات الاجتماعية والنفسية، والتي من بينها القيادة الادارية، ومن منطلق تلك الضرورة العلمية فإننا نتحاكم الى الشريعة الاسلامية للوقوف على حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية.
ونود أن ننوه في ختام هذا الجزء الى اننا ما نتحاكم الى الشروط العلمية التي تعارف عليها رجال الفكر الاداري والانساني لصحة القياسات ومناهج البحث الوضعية المستخدمة للوقوف على حقيقة الظواهر الاجتماعية والنفسية الا لبيان مدى قصور تلك المناهج والقياسات الوضعية المستخدمة للوقوف على حقيقة تلك الظواهر استناداً الى آراء وأحكام وشروط رجال الفكر الاداري والانساني أنفسهم، وكفى بهم على أنفسهم شهداء، وكفى الله المؤمنين مؤنة مجادلة رجال الفكر الاداري والانساني ودحض حججهم وادعاءاتهم، وأنه لم يكن قصدنا من ذلك ان نتخذ الآراء والاحكام والشروط اساساً وحجة على دقة وصواب المنهج الاسلامي في البحث والقياس ووجوب التحاكم إليه، فنن نعي ان المنهج الاسلامي له أصوله ومنطلقاته الايمانية الثابتة بغض النظر عن أية معايير أو أحكام وآراء وشروط وضعية تغلفها الاهواء والمصالح، أو تحول بينها وبين الصدق والصواب قصور طاقات وقدرات ذلك الانسان المخلوق، فالبون شاسع بين قدرة وعلم الخالق سبحانه وقدرة وعلم المخلوق.
وعلى ذلك فإن هذا التحليل السابق يؤكد قناعتنا الذاتية الايمانية بوجوب تحاكم المخلوق الضعيف الى منهج الخالق القوي القدير، وأن تحكيم منهج الخالق - سبحانه - هو السبيل الوحيد الذي يقينا شر الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)[104].
ولاشك ان سعينا لتحاكم الى كتاب الله وسنة رسوله من اجل الوقوف على المقومات والعناصر القيادية الحقيقية للقيادة الادارية الرشيدة سوف يتيح لنا التحقق من مدى صحة الفرض الثاني لهذا البحث، والذي يقضي بأن الشريعة الاسلامية بها عديد من النصوص القرآنية والاحاديث النبوية المتصلة بالقيادة الادارية الرشيدة، وأن في الامكان عن طريق التحاكم الى تلك النصوص الوقوف على المقومات والعناصر القيادية الحقيقية للقيادة الادارية الرشيدة.
ويجدر بنا قبل ان نشرع في التحاكم الى الشريعة الاسلامية للوقوف على حقيقة القيادة الادارية أن نتعرض للامرين التاليين:
الامر الاول: الملامح الاساسية لمنهج التحاكم الى الشريعة الاسلامية:
الامر الثاني: مظاهر وأسباب اختلاف الفقهاء المسلمين تجاه حقيقة المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية.
وسوف نتناول الموضوع الاول بالبند ثامناً ونتناول الموضوع الثاني بالبند تاسعا.

ثامناً: الملامح الاساسية لمنهج التحاكم الى الشريعة الاسلامية:
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجد ان كتاب الله، ومنذ أربعة عشر قرناً كان ومازال يدعو ويحث الانسان على وجوب اعمال عقله وحواسه في جنبات ذلك الكون، والعمل على استخلاص واكتشاف تلك السنن والآيات الكونية التي تحكم وتسطير على كثير من الظواهر الطبيعية، والآية على ذلك قول الحق سبحانه[105].
(قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق)[106]
(إن في السموات الارض لآيات للمؤمنين)[107]
(وفي الأرض آيات للموقنين)[108].
(فلينظر الانسان مما خلق)[109].
(أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها)[110].
(فانظر الى آثار رحمت الله كيف يحيي الارض بد موتها)[111].
(ألم تر ان الله أ،زل من السماء ماء فاخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك)[112].
(أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء)[113].
(قل انظروا ماذا في السموات والارض)[114].
ولقد وعى واستجاب المسلمون في صدر الاسلام لذلك التوجيه القرآني، فدانت لهم القيادة والريادة، فكان منهم - وهم الاميون - العلماء والمفكرون والباحثون في شتى مناحي ومجالات الحياة، ولقد اشار الى تلك الحقيقة أحد علماء الغرب، وهو العلامة بوش[115] حيث يرى: (ان المدنية الاوربية، بل المدنية الغربية كلها مدينة للمسلمين، ومن المدهش ان يصبحوا، وكانوا أول امرهم على الفطرة عنصراً فاتحاً، ويعتبرون سادة لنصف العالم في مائة سنة، ومن اشد العجب حماستهم العظيمة وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم، حتى وصلوا الى مستوى عال في مائة سنة، بينما نرى الجرمانيين لما فتحو الامبراطورية الرومانية قضوا الف عام قبل ان يقضوا على التوحش وينهضوا لاحياء العلوم، ولكن هذا يقدم دليلاً آخر وحجة على المسلمين وعلى غير المسلمين على مدى عظمة المنهج القرآني).
ولقد دانت للمسلمين القيادة والريادة العلمية في مجالات الطب والكيمياء والطبيعة والزراعة والنبات والرياضة والفلك والتاريخ والجغرافيا[116] ما تمسكوا بكتاب الله واستجابوا لمنهجه، فأعملوا عقولهم وحواسهم في رصد ودراسة تلك المجالات، وقاموا باجراء التجارب والأبحاث بهدف الوقوف على آيات وسنن الحق سبحانه التي تحكم وتوجه تلك العلوم والظواهر الطبيعية، ولما فترت منهم الهمم وأفسدهم الترف وابتعدوا عن الجادة وركنوا الى البدعة، وانشغلوا بظواهر العلوم عن حقيقتها، فانشغلوا بالسفسطة والجدل العقيم، فانساقوا الى ما انساق اليه غيرهم، فابتعدوا عن منهج الاسلام، وبعد ان كان المسلمون علماً على الاسلام وللاسلام صار الكثيرون منهم بسلوكهم من أبعد الناس عن الاسلام، وصاروا يحسبون على الاسلام، فضلوا الطريق وفقدوا هويتهم المميزة، وفقدوا أسباب القوة فتداعت عليهم الأمم والشعوب، ولقد تنبه للدرس علماء الغرب، فأخذوا بالأساليب الموضوعية الموصولة للغاية - وخاصة في العصر الحديث - فراحوا يعملون عقولهم وحواسهم في رصد ودراسة الظواهر الطبيعية، فتمكنوا من استئناس كثير من هذه الظواهر والسيطرة عليها والانتفاع بها، وتحقيق تقدم حضاري هائل في تلك المجالات دفع بهم الى المقدمة، وجعلهم يحتلون مكان الريادة والقيادة في تلك المجالات.
وبالرغم من كل ذلك فإن تلك الاحداث والتطورات المعاصرة وإن كانت قد جعلت المسلمين يتوارون ويتراجعون الى الخلف، فإن تلك الاحداث ذاتها هي التي جعلت القرآن والاسلام يعلو ويتقدم الى الامام، فلقد شاءت حكمة الخالق سبحانه ان تشير آيات كتابه المسطور لعديد من الآيات والسنن الكونية التي تضمنها واحتواها كتابه المنظور، والامر المعجز حقاً هو ذلك الاتفاق والاتساق والتوافق التام بين تلك الآيات الكونية التي جاء بها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً، والصحيح من تلك السنن والقوانين الكونية التي اكتشفها وتوصل اليها علماء القرن العشرين[117]،  وصدق الحق إذ يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)[118].
ولقد تبين لهم ذلك ومازالت تلك الاحداث والتطورات العلمية في العصر الحديث تقدم البرهان تلو البرهان على مدى صدق واعجاز ذلك الكتاب المسطور ومدى دقة منهجه.
وعلى ذلك فقد صار لزاماً على العلماء والمفكرين والباحثين في العصر الحديث بعد ان تحاكوا في مجال دراسة الظواهر والعلوم الطبيعية الى السنن والآيات الكونية، التي أودعها الخالق سبحانه صفحات كتابه المنظور، فتمكنوا من استئناس كثير من الظواهر، وبعد ان أعملوا عقولهم وحواسهم في دراستها ورصدها فتمكنوا من الكشف عن الآيات والسنن الكونية لكثير من تلك الظواهر، وبعد ان تكفلت تلك الآيات والسنن الكونية ذاتها بتقديم البرهان على مدى صدق وإعجاز تلك الآيات والسنن التشريعية التي أودعها الخالق سبحانه صفحات كتابه المسطور، ومن ثم فقد صار لزاماً على هؤلاء العلماء والمفكرين والباحثين ان يتحاكموا في مجال دراسة الظواهر والعلوم الاجتماعية والنفسية الى آيات الحق وسننه التشريعية التي تضمنها كتابه المسطور، مثلما تحاكموا الى آياته وسننه الكونية التي تضمنها كتابه المنظور، فيجمعوا بين الحسنيين وتستقيم للإنسانية في القرن العشرين أمورها النفسية والمعنوية والاجتماعية، مثلما استقامت امورها المادية.
وإذا كان مثل هذا التحاكم قد صار لزاماً على هؤلاء، فإنه قد غداً اكثر لزاماً على العلماء والمفكرين والباحثين المسلمين، بعد ان ضلوا الطريق الى التقدم والسعادة يوم ان هجروا التحاكم ال كتاب ربهم وأهملوا العمل بتوجيهاته في مجال العلوم والظواهر الطبيعية ففقدوا بذلك أسباب التقدم المادي وتخلفوا عن ركب التقدم والتطور والرفاهية، وكذلك بعد ان كاد أغلبهم يهجر التحاكم الى آيات الكتاب الكريم، وأهملوا العمل بتوجيهاتها وأحكامها في مجال العلوم والظواهر النفسية والاجتماعية، فكأنهم أبوا الى أنفسهم إلا ان يزيدوا الطين بلة، فيضيفوا الى تخلفهم وتعاستهم المادية، يتمأ نفسياً وشقاءً روحياً[119].
ومن هذا المنطلق فإننا نهيب بالعلماء والمفكرين والباحثين عامة والمسلمين منهم خاصة بضرورة التحاكم الى الشريعة الاسلامية للوقوف على حقيقة تلك الظواهر الاجتماعية والنفسية بصفة خاصة، وغيرها من الظواهر والامور بصفة عامة. ولاشك ان ذلك يستوجب منا إلقاء بعض الضوء على الملامح الاساسية للمنهج الاسلامي في التحاكم الى الشريعة الاسلامية في أي أمر من الامور، ونستطيع ان نجمل أهم أسس المنهج الاسلامي في التحامك الى الشريعة الاسلامية فيما يلي:
(أ) إن التحاكم هو أولاً وأساسه تحاكم الى كتاب الله في المقام الاول، وذلك استجابة لقول الحق لرسوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)[120].
واستجابة لقول الحكيم الخبير: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)[121].
فهذا الكتاب الخالد الذي أنزله الله على رسوله هو المصدر الاول والاصيل لقواعد وأحكام الشرعية الاسلامية، وعنه يقول رسول الله: (من اقتدي بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة)[122].
ويقيني أن هذا الكتاب الكريم قد حسم كافة القضايا والامور، وأن قواعده وأحكامه قد نظمت وقننت لكل ما يهم الانسان في أخراه ودنياه، وذلك تصديقاً لقوله سبحانه (ما فرطنا في الكتاب من شيء)[123].
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون)[124].
وقوله سبحانه لرسوله: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدي ورحمة)[125].
(ب) إن التحاكم بعد ذلك يكون الى سنة رسول الله القولية والعملية باعتبارها الترجمة الامينة والتفصيل والبيان لنص وروح كتاب الله والتجسيد الحي الواقعي لأحكامه وتوجيهاته، فإذا ما غمى علينا أمر من الامور ولم نستطيع تبين حقيقته من كتاب الله فعلينا اللجوء الى السنة المطهرة لاستجلاء وتوضيح وبيان حقيقة مثل هذه الامور. ومن شاء فليقرأ قول الحق لرسوله الكريم: (وأنزلنا اليك الذكر لتبين الناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون)[126].
وعلى ذلك فرسول الله هو الامين على تفسير وتفصيل وبيان ما ورد بكتاب الله، وعلى ذلك فقد وجب التحاكم الى سنته، لاستجلاء وتوضيح احكام الشريعة التي جاء بها كتاب الله، ولهذا فقد جعل الحق سبحانه طاعة الرسول من طاعة الله، فقال سبحانه: (فمن يطع الرسول فقد أطاع الله)[127]، وقال سبحانه: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم)[128]. وقال سبحانه: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)[129]. وقال سبحانه: (وابتعوه لعلكم تهتدون)[130]. وقال سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[131].
وصدق الرسول (ص) إذ يقول: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله)[132].
(ج) التحاكم الى اجتهاد العلماء والفقهاء وأولى الامر لبيان وتوضيح ما عمى علينا من امور، ولم نستطيع ان نهتدي الى حقيقتها بالتحاكم الى كتاب الله وسنة الرسول، وذلك مصداقاً لقوله سبحانه:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم)[133].
ولقد نصالح العلماء على ان الاجتهاد محكوم بضوابط ثلاثة[134]:
1 - وجوب مطابقة الاجتهاد لمقاصد الشريعة الاسلامية وأصولها.
2 - أن يكون بهدف سد ضرورة حقيقة او لرفع مشكلة اساسية.
3 - ان يكون مقبولاً ومتفقاً عليه من عامة العقول.
ونستطيع ان نلمس هذا المنهج في التحاكم في هدى رسول الله في حديثه الى معاذ بن جبل حين بعثه الى اليمن والياً عليها[135]:
فسأله: بماذا تحكم يا معاذ؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال اجتهد برأي، لا آلو. فقال رسول الله (ص): الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله.
تلك هي أهم اسس الشريعة الاسلامية في التحاكم اليها للوقوف على حقيقة أي أمر من الامور، وتلك الاسس المنهجية يكاد يجمع عليها أغلب الفقهاء، ولكننا نود ان ننبه في هذا الخصوص الى أصل هام من الأصول الاسلامية في التحاكم، وهو أنه إذا انتهى بنا التحاكم الى الاجتهاد، وإذا انتهى بنا الاجتهاد الى الاختلاف حول حقيقة أي امر من الامور فأن الشريعة الاسلامية توجب على المجتهدين رد الامر الى الاصول الاسلامية، وهما كتاب الله وسنة رسوله، والاحتكام اليهما، حتى يتبين وجه الخطأ والصواب في اجتهادات المجتهدين، وذلك استجابة لقول الحق سبحانه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)[136].
والغريب في الامر أنه بالرغم من وضوح هذا الاصل، فإننا إذا استقرأنا واقع حال اجتهادات الفقهاء والباحثين حول عددي من الامور الاسلامية نجد أنهم، وقد اختلفت آراؤهم وانقسمت مواقفهم تجاه حقيقة هذه الامور، فإنهم قد نسوا أو تناسوا هذا الاصل وتقاعسوا عن رد الامر مرة أخرى الى كتاب الله وسنة رسوله للاستضاءة بهديهما في الوقوف على حقيقة تلك الامور موضع الاختلاف والتنازع، ولعل موقف الفقهاء والباحثين المسلمين من حقيقة شروط ومقومات القيادة الادارية الرشيدة في الاسلام. والذي سوف نتناوله في البند التالي - كفيل بتقديم البرهان الكافي على مدى صدق ما ذهبنا اليه.

تاسعاً: مظاهر وأسباب اختلاف الفقهاء المسلمين تجاه حقيقة المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري للدولة الاسلامية:
(أ) مقدمة: يجدر بنا ان نشير الى ان الفقه الاداري الاسلامي في تصديه لدراسة القيادة الادارية قد أولى عناية ملموسة بمستوى القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية، ولاشك ان ذلك يتوافق مع ما لهذا المستوى من أهمية، وما لدوره من خطورة وآثار تنعكس وتمتد الى كافة المستويات الادارية الادنى، وسوف ننحو هذا النحو في دراستنا وبحثنا عن حقيقة القيادة الادارية في الاسلام، وذلك من منطلق أن الحديث عن الامام او القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية، هو حديث عن القيادة على مستوى المبدأ والدرجة والأهمية، فالحديث عن الامام او الخليفة او أمير المؤمنين، وغير ذلك من الالقاب التي تطلق على القائد الاداري الأعلى للدولة الاسلامية إن هو إلا حديث عن احد مستويات القيادة الادارية، وإن كان الحديث عن هذا المستوى الاداري يمثل حديثاً عن أعلى مستوى من المستويات القيادية وأخطرها أثراً، ولاشك انه وأن كان من الهين على الفكر الانساني عامة - والفقه الاداري الاسلامي خاصة - ان تختلف وتتباين مواقفه فيما يتعلق بالوقوف على حقيقة المقومات والعناصر القيادية الواجب توافرها في كافة المستويات القيادية[137]. فإن من الخطير ان يمتد هذا الاختلاف والتباين ليشمل موقف هؤلاء من حقيقة المقومات والعناصر القيادية الواجب توافرها في القائد الداري الاعلى للدولة - أعلى درجات القيادة - خاصة ونحن نعلم ان هؤلاء القادة هم الذين بيدهم سلطة انتقاء واصطفاء المستويات القيادية الادنى.
كما يجدر بنا ان نشير كذلك الى ان الفقه الاسلامي قد درج الى تقسيم المقومات والعناصر القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية الى مقومات - او أركان - واشتراطات، ولقد تعارف الفقه الاسلامي على تعريف المقوم - او الركن - وفقا لما يلي[138]:
(الركن: جزء من حقيقة الشيء) وعلى ذلك فالمفهوم او الركن - يمثل قوام الشيء، ويلزم وجوده لوجود الشيء.
اما الشروط - او الشرط - فقد تعارف الفقه الاسلامي على ان[139].
(الشروط: هو امر خارج عن حقيقة الشيء، وليس من أجزائه، وإن كان وجود الشيء صحيحاً - يتوقف على وجوده، وعلى ذلك فالشرط لازم لصحة انعقاد الشيء، وإن كان لايلزم وجود الشرط - مع وجود الشيء - ولكن يترتب على غايبه وجود خلل في صفة الشيء وعدم صحته.
وسوف ننحو ايضاً هذا النحو في دراستنا وبحثنا عن حقيقة القيادة الادارية من خلال التحاكم الى الشريعة الاسلامية.
والان وبعد هذا الايضاح فسوف نتناول المواقف المختلفة - بل والمتباينة في بعض الاحيان -  لفقهاء الفكر الاداري الاسلامي تجاه حقيقة المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الأعلى للدولة الاسلامية، ثم نتبع ذلك بأسباب هذا الاختلاف.

(ب) مظاهر اختلاف مواقف فقهاء الفقه الاداري الاسلامي من حقيقة المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية: لتبين حقيقة مواقف فقهاء الفقه الاداري الاسلامي في هذا الصدد، فسوف نقوم فيما يلي بتقديم عدد من النماذج لمواقف هؤلاء الفقهاء قديماً وحديثاً من هذه المقومات والشروط القيادية الواجب توافرها في القائد الاداري الاعلى للدولة الاسلامية، أماماً كان لقبه ام غير ذلك:
نماذج من مواقف قدامى الفقهاء من مقومات وشروط الامامة:
النموذج الاول: مقومات واشتراطات الامامة عند فقهاء الحنفية[140]:
1 - الاسلام
2 - الذكورة
3 - الحرية
4 - العقل
5 - الشجاعة
6 - القرشية، أي: يكون من قريش
وهم يرون ان تلك الشروط الستة هي الشروط الواجب توافرها ومراعاتها في الامامة، ويرون ان غير ذلك من الشروط إنما هي مكملات ترجح من وجدت فيه على من عداه.
ولعلنا نلاحظ من التناول السريع لتلك الشروط ان الشرطين الاول والرابع - الاسلام والعقل - من الامور البدهية، وسوف نلحظ تكرار مثل هذه الشروط وما شابهها - كشرط البلوغ والكفاية الجسمية والحرية، فماذا يتصور في إمام المسلمين غير ان يكون مسلماً بالغاً عاقلاًن ثم أليس الإسلام لا يكلف به إلا الانسان البالغ العاقل[141]، فالقاصر رفع عنه التكليف ومن ذهب عقله رفع عنه التكليف فكان والأمر كذلك من الواجب الاقتصار على شرط الاسلام - إن كان لابد من ذكره - وهو يشمل كما بينا شرطي العقل والبلوغ.
النموذج الثاني: مقومات وشروط الامامة عند الماوردي[142]:
1 - العدالة على شروطها الجامعة.
2 - العلم المؤدي الى الاجتهاد في النوازل والاحكام.
3 - سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان، ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.
4 - سلامة الاعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
5 - الرأي المفضى الى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
6 - الشجاعة والنجدة المؤدية الى حماية البيعة وجهاد العدو.
7 - النسب، وهو ان يكون من قريش، لورود النص فيه.

نماذج من مواقف الفقهاء المعاصرين من مقومات وشروط الامامة:
النموذج الاول: مقومات وشروط الامامة (الرياسة) التي انتهى اليها احد الفقهاء المعاصرين[143]:
1 - العدالة.
2 - الاجتهاد.
3 - الكفاية الجسمية.
4 - الكفاية النفسية.
5 - ان يكون من قريش، وهو شرط تفضيل.
6 - صحة الرأي في السياسة والادارة والحرب.
7 - الاسلام.
8 - البلوغ.
9 - العقل.
10 - الحرية.
11 - الذكورة.
12 - ان يكون افضل من غيره فيما يحصل فيه التفاضل من شروط.
والملاحظ ان غالبية هذه الشروط التي انتهى إليها - من بحثه - الدكتور/ محمد رأفت عثمان يكاد يتطابق جانب منها مع  غالبية الشروط التي أوردها فقهاء الحنفية، والجانب الآخر منها مع الاشتراطات التي أوردها الامام الماوردي، وإن كنا نجده في ذات الوقت قد تغاضى عن الشجاعة كشرط من شروط الامامة مخالفاً في ذلك كلاً من فقهاء الحنفية والامام الماوردي، كما زاد على الشروط التي أورداها شرطي البلوغ والكفاية النفسية - ويجدر بنا الاشارة الى تحفظ الدكتور/ محمد رأفت عثمان بعد ان اورد تلك القائمة الاجمالية لشروط الامامة التي نص عليها الفقهاء، حيث يرى ان جماهير العلماء قد اتفقت على بعض هذه الشروط، واختلفت في بعضها الآخر، ويرى ان ذلك أمر طبيعي نظرا لانه لم يرد نص إلا في شرط القرشية وأما ما عدا هذا الشرط فاشترطه العلماء: لان هذا المنصب يقتضيه ومن الطبيعي والامر كذلك ان تختلف وجهات نظرهم[144].
واذا رجعنا الى هذه الشروط نجد ان غالبيتها مختلف عليها من الفقهاء فيما عدا شروط الاسلام والعقل والكفاية الجسمية والذكورة، ولاشك ان الشروط الثلاثة الاولى شروط بدهية، ومن ثم لا يبتغى الا شرط الذكورة هو الذي حدث حوله اجماع من الفقهاء اما باقي الشروط فمختلف عليها[145].
النموذج الثاني: ما يجدر بنا الاشارة الى شروط الامامة التي اوردتها اللجنة العليا المنبثقة عن المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الاسلامية بالازهر الذي انعقد بالقاهرة في ذي القعدة 1397هـ الموافق اكتوبر 1977م، والمشكلة برئاسة الامام الاكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الازهر ورئيس المجمع، والسادة اعضاء لجنة الابحاث الدستورية بالمجمع، ونخبة من كبار الشخصيات المشتغلين بالفقه الاسلامي، والقانون الدستوري تلك اللجنة التي قامت بوضع مشروع الدستور الاسلامي لتسترشد به أي دولة تريد ان تأخذ الشريعة الاسلامية منهاجاً لحياتها[146] وتلك الشروط التي وردت بالباب الخامس من مشروع الدستور الاسلامي، المادة 47 هي[147]:
1 - الاسلام.
2 - الذكورة.
3 - البلوغ.
4 - العقل.
5 - الصلاح.
6 - العلم بأحكام الشريعة.
ومما يجدر الاشارة اليه أن الدكتور مصطفى كمال وصفي عضو اللجنة يختلف معها حول تلك الشروط، ويرى ان الشروط الواجب توافرها في الامام هي الشروط الواجب توافرها في القاضي[148]. ولقد اورد الامام الماوردي ثمانية شروط ينبغي توافرها في القاضي وهي[149]:
1 - البلوغ.
2 - الذكورة.
3 - العقل.
4 - الحرية.
5 - الإسلام.
6 - العدالة.
7 - السلامة في السمع والبصر.
8 - العلم بأحكام الشريعة.
وكأنه يرى إضافة كل من الحرية، العدالة، وسلامة السمع والبصر لشروط الإمامة.

(ج) أسباب هذا الاختلاف في مواقف فقهاء الفكر الاداري الاسلامي:
على ضوء ما سبق يتبين لنا ان العلماء والفقهاء المسلمين ليس لهم موقف موحد من المقومات والشروط التي يجب ان تكون عليها الامامة الرشيدة، لدرجة ان شرط القرشية الذي أوردته غالبية الفرق الاسلامية وغالبية الفقهاء السابقين على أنه الشرط الوحيد من بين شروط الامامة الذي ورد فيه نص - قد أغفلته اللجنة المنبثقة عن المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الاسلامية بالأزهر من بين شروط الامامة.
ولعل السبب في ذلك ان غالبية الفقهاء والعلماء والباحثين المسلمين يرون ان شروط الامامة في الاسلام هي من الامور التي يجب إعمال الرأي والاجتهاد فيها، وهي تلك الامور التي سكت عنها الكتاب والسنة، ومن ثم جاز لهم أن يجتمعوا في ذلك، ومن ثم فقد اختلفت آراؤهم واجتهاداتهم، ومن ثم فقد تشابهت مواقفهم مع مواقف الفكر الانساني غير الإسلامي.
ولكن هل يعني تماثل الظواهر تماثل العلل والبواطن؟ إننا لا نعتقد ذلك، فالمنطلقات الفكرية والعقائدية للفكر الانساني الاسلامي تختلف عن المنطلقات الفكرية والعقائدية للفكر الانساني غير الإسلامي، فهنا إيمان بإله واحد وكتاب واحد ونظرية واحدة ومنهج واحد للحياة، وهناك إيمان بآلهة وارباب مختلفة وكتب ونظريات ومناهج وضعية عديدة ومتباينة. ولذلك يتبين لنا ان الاختلاف والتباين هو سمة من سمات الفكر الانساني غير الاسلامي، ولكن ما العلة وراء ذلك الاختلاف والتباين في موقف الفكر الانساني الاسلامي المتمثل في اختلاف مواقف الفقهاء المسلمين تجاه شروط الامامة او القيادة الادارية الرشيدة في الاسلام، وخروجهم على مقتضى المنهج الاسلامي الذي يؤمن بالوحدانية والوحدة، ولا يقر التعدد والاختلاف والفرقة، خاصة تجاه تلك الامور الهامة والخطيرة الشأن، إن علة ذلك الاختلاف والتباين إنما يعود لاخطاء منهجية وموضوعية وقع فيها فقهاء الفكر الاداري الاسلامي، ولقد استحييت ان اجهر بهذا الرأي وترددت كثيراً، وأخيراً فإني اجهر به ابتغي وجه الحق - والله هو الحق والله هو المستعان - فإن أصبت فذلك من فضل الله، وإن كانت الاخرى فحسبي خلوص القصد، ونتناول فيما يلي بيان تلك الاخطاء:
الخطأ الأول: خطأ منهجي: ونستطيع ان نتبين هذا الخطأ، إذا علمنا ان فقهاء الفكر الاداري الاسلامي في سعيهم للوقوف على شروط الامامة التي تتمثل فيها قمة القيادة الادارية العليا للدولة الاسلامية، قد التمسوا الوقوف عليها في السنة المطهرة، فانتهى بهم البحث الى انه لا يوجد الا نص واحد جاءت به السنة، وهو شرط القرشية، ومن ثم فقد لجأوا الى الاجتهاد لاستكمال باقي الشروط، فانتهى بهم اجتهادهم الى الاختلاف، وعند ذلك جاء خطأهم المنهجي، فمنهج الاسلامي في ذلك واضح فالآية (59) من سورة النساء تقول:
(فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً).
والآية العاشرة من سورة الشورى تؤكد نفس المعنى:
(وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله) والرسول قوله يوافق ما ذهبت اليه هاتان الآيتان الكريمتان: فعن النبي (ص) قال:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)[150].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة)[151].
وذلك هو القول الحق، فما كان لنا ان نختلف وبيننا كتاب ربنا ومن بعده الثابت قولا وعملا وتقريرا من سنة رسول الله. ويقيني ان كتاب الله به من القواعد والاصول والاحكام والتوجيهات ما يقي المسلمين شرور الفرقة والاختلاف، فآيات الحق تقول: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)[152].
فذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي تكفل الله بحفظه، والذي يقول في حقه رب العزة (ولقد جئناكم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون)[153].
ويقول في حقه رب العزة ايضاً: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)[154]، هذا الكتاب قد جعل فيه رب العزة بياناً لكل شيء: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة)[155] فإذا غمى علينا ولم نستطع ان نستخلص من بين آياته ما يعيننا على تفهم حقيقة أمر من الامور لجأنا الى السنة القولية والعملية الترجمة الحقيقية الامينة لنص وروح القرآن والتجسيد الحي الواقعي لاحكامه وتوجيهاته، نستوضح منها ما يعيننا على تفهم حقيقة ذلك الامر. فإن غمى علينا من أمر السنة المطهرة ما يعيننا على استيضاح حقيقة ذلك الامر اجتهادنا، واجتهادنا محكوم بالضوابط الثلاثة التي سبق ان أشرنا اليها في الجزء السابق وهي:
الاول: ان ما ينتهي اليه اجتهادنا يتحتم مطابقته لمقاصد الشريعة الاسلامية.
الثاني: ان تقبله عامة العقول التي يقدم اليها.
الثالث: ان يكون بهدف سد ضرورة حقيقة او لرفع مشكلة اساسية.
وعلى هذا لا يكون الاجتهاد اجتهاداً إذا لم تتحقق فيه تلك الضوابط، فإذا نظرنا في اجتهاد الفقهاء تجاه شروط الامامة نجد ان الاختلاف والتباين في مواقف الفكر الانساني تجاه سمات وشروط القيادة او الامامة الرشيدة، قد وصل الى حد الرأي ونقيضه والى حد الاختلاف حول الشرط الوحيد - على حد قول غالبية الفقهاء - الذي ورد فيه نص، فهناك من يرى بوجوبه، وهناك من يرى بعدم وجوبه، ولعل ذلك يوضح لنا ان اجتهاد فقهاء الفكر الاداري الاسلامي في هذا الخصوص يصعب على عامة العقول ان تتقبله، وأن هذا الاجتهاد لم يؤد لرفع المشكلة الاساسية موضوع الاجتهاد فمازال التساؤل حول حقيقة المقومات والشروط الواجب توافرها في القيادة الادارية الرشيدة، مطروحاً نظراً لذلك الاختلاف في المواقف تجاه تلك المقومات والشروط القيادية، فهل هي..؟[156]
- شروط السلف والفقهاء السابقين؟ واي الشروط من شروط الفقهاء السابقين هي الاشتراطات الصحيحة؟
- أم هي شروط الخلف والفقهاء المعاصرين؟ وأي شروط من شروط الفقهاء المعاصرين هي الشروط الحقيقية التي يجب توافرها في القيادة الرشيدة من وجهة نظر الاسلام؟
وعلى ذلك فلم يتحقق من الاجهاد ما نرجوه وحدث الاختلاف، وضلت منا الحقيقة، فكان من الواجب إذاً الاحتكام الى كتاب الله من جديد، إعمالاً لنص الآية السابق الاشارة اليها من سورة الشورى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله)
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة).
ولا شك ان عدم قيام رجال الفقه الاداري الاسلامي برد الامر في تلك الاختلافات الى كتاب الله، وعدم تحاكمهم اليه والاستضاءة بنوره، والاهتداء بهديه لدرء هذه الاختلافات في مواقف الفقه الاداري الاسلامي، وتبين جوانب الخطأ والصواب في تلك المواقف، لاشك ان هذا المسلك من جانبهم يعد خطأ منهجياً لاشك فيه، فيه خروج على المنهج الاسلامي.
الخطأ الثاني: خطأ موضوعي: حيث نجد ان هؤلاء الفقهاء، وقد احتكموا الى السنة، فإنهم قد أخذوا بحديث وتركوا حديثاًن علماً بان الحديث المتروك لم يحدث عليه اختلاف، كما حدث على الحديث الذي اخذوا به، بالاضافة الى أن الحديث المتروك أقوى دلالة واكثر وضوحاً، من حيث ارتباطه بمقومات وشروط القيادة ويوافق آيات الكتاب الكريم، ولست أدري حقيقة لماذا لم ينص على هذا الحديث ضم الشروط المطلوبة في الإمامة؟، فلقد ورد عن رسول الله انه قال لمن سأله الولاية او الامارة: (إنا والله لا نولي على هذا العمل احداً سأله ولا أحداً حرص عليه).
قالها الرسول لرجلين من بني عمومة الصحابي الجليل ابي موسى الاشعري، والحديث نصه في صحيح مسلم[157]:
(عن أبي موسى الاشعري قال: دخلت على النبي أنا ورجلان من بني عمي، فقال احد الرجلين يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي على هذا العمل احداً سأله ولا أحدا حرص عليه) صدق رسول الله، فإن هذا العمل لا يتولاه من طلبه وحرص عليه وسعى اليه، قالها رسول الله لهذين الرجلين، ولأكثر من صحابي جليل مؤكداً على نفس هذا المعنى الحق. قالها لعمه العباس، وقالها لعبد الرحمن بن سمرة وقالها لأبي ذر، وقالها لعامة المسلمين. فعن ابي هريرة عن النبي (ص) انه قال[158]: (إنكم ستحرصون على الامارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة).
ويوضح الرسول لماذا الحرص على الإمارة عاقبته الندامة في حديثه لعبد الرحمن ابن سمرة: فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم[159]
(يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها).
والعون والتوفيق في هذا الامر لا يكون إلا من العلي القدير، وللذين لا يريدون علواً على عباد الله ولا فساداً في الارض، اما من سعى الى القيادة او الامامة وطلبها او حرص عليها، فقد حرم من عون الله توفيقه، لانه ما أقدم على ذلك إلا للدنيا لا للدين، او إذا احسنا الظن به فجهلاً بأمرها. فالانسان المؤمن لا يضمن النجاة من النار، والفوز بالجنة، وهو موكول إليه امر نفسه، فما باله وقد سعى ليتحمل الامانة والمسئولية عن غيره ويتولى رعايتهم وإمارتهم، ومن اجل هذا حذر الرسول الكريم من عظم هذا الامر وجسامة تلك المسئولية، ولقد روى ابو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام انه قال[160]: (ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين اقوام يوم القيامة ان ذوائبهم كانت متعلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والارض، ولم يكونوا عملوا على شيء).
والاحاديث في هذا المعنى كثيرة وتؤكد كلها ما سبق ان اشرنا اليه ان الذي يقبل على تلك المخاطرة الجسيمة، ويحرص عليها ويطلبها ويسعى اليها، لابد انه في الاعم الاعظم إن هو إلا رجل باع آخرته بدنياه، واراد المال او السلطان، او كلاهما معاً من اجل ذلك حرم عون الله وتوفيقه له في هذا الامر الذي سعى اليه وحرص عليه فالله يقول في كتابه الحكيم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً)[161].
فكل إنسان محكوم بغاياته، ومن اجل ذلك شرع لنا الرسول الكريم على ضوء هدى القرآن كتاب الله الحكيم اصلاً كبيراً وشرطاً عظيماً من شروط الامامة او القيادة الرشيدة، وهو: إن أصلح الناس لهذا الامر من لم يسأله او يحرص عليه.
وعلى هذا، فإن الزاهد المعرض عن هذا الامر هو من أصلح الناس للقيادة، وإذا كان الرسول يقول في حق من طلب هذا الامر:
(إن أخونكم عندنا من طلبه)[162] وعليه فان آمن الناس على هذا الامر من لم يطلبه ويحرص عليه إذا توافرت لديه القدرة والكفاءة، ولاشك انه قد وضح لنا الان ان من اولى شروط الأهلية لهذا الامر هو عدم الحرص عليه او السعي اليه، والشخية والخوف من عدم القيام بحق تلك المسئولية الجسيمة الملقاة على عاتق كل من وكل إليه أمر توجيه الآخرين ورعاية شئونهم. لذلك فاننا نرى ان عدم الأخذ بهذا الحديث[163] من جانب غالبية الفقهاء ضمن شروط الاهلية او القيادة الرشيدة يحتاج الى وقفة موضوعية، خاصة وإن هناك آيات من كتاب الله لها صلة بالصلاحية والاهلية للقيادة، وكذلك أحاديث اخرى للرسول شأنها شأن الحديث السابق لم يأخذ الفقهاء بها ضمن شروط القيادة أو الامامة[164]، ومن ذلك تلك الآيات من الذكر الحكيم التي تتحدث عن وجوب اللين وخفض الجناح في تعامل القائد الرسول لأمته:
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين)[165] (واخفض جناحك للمؤمنين)[166]. ويتكرر نفس هذا المعنى في آية أخرى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)[167].
وذلك الحديث الذي يدعو الى الرفق بالرعية من جانب الولاة والامراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة عن عائشة انها قالت[168]: سمعت النبي يقول في بيتي هذا:
(اللهم من ولي من أمر امتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر امتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به)، وعلى هذا فإننا اذا نظرنا من الناحية الموضوعية لشروط الامامة على ضوء ما سبق من آيات واحاديث يغلب علينا ان الفقهاء المسلمين قد جانبهم التوفيق في تناول وتحديد شروط الامامة، إذ أخذوا بحديث واحد اختلفوا عليه وتشككوا في موافقته لآيات كتاب الله، وتركوا أحاديث متفقاً عليها ومقطوعاً بموافقتها لآيات كتاب الله، ولاشك ان هذا خطأ موضوعي لا يقل عن الخطأ المنهجي الذي سبق ان اشرنا اليه.
من ذلك كله فإننا نرى ان الفقهاء المسلمين قد جانبهم التوفيق في تناولهم شروط الامامة، ومن ثم شروط القيادة الرشيدة نتيجة تلك الاخطاء المنهجية والموضوعية، والتي كان من حصيلتها هذا الاختلاف والتباين في مواقفهم تجاه شروط الامامة والقيادة الرشيدة في الاسلام.
وعلى ضوء كل ما سبق يتضح لنا بجلاء تام مدى أهمية وضرورة رد الامر والتحاكم الى كتاب الله اولاً، ثم الثابت قولاً وعملاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، من أجل الوقوف على الشروط القيادية الاوجب توافرها في القيادة الادارية الرشيدة في الاسلام.

ليست هناك تعليقات: