Translate

الجمعة، 21 مارس 2014

تحليل وتقويم استخدام المنهج العلمي في دراسة ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر

الفصل الثالث

تحليل وتقويم استخدام المنهج العلمي في دراسة
ظاهرة القيادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر

الفصل الثالث
تحليل وتقويم استخدام المنهج العلمي في دراسة
ظاهرة القادة الادارية في الفكر الاداري المعاصر

مقدمة:
لاشك ان الوقوف على الحقيقة - كان ومازال - هو غاية المفكرين والباحثين في أي مجال من المجالات، وفي أي مجتمع من المجتمعات، ويرى بعض المفكرين ان الوقوف على الحقيقة يتأثر الى حد كبير بنوعية وطبيعة وظروف مناهج البحث المستخدمة للكشف عن الحقيقة في أي من هذه المجالات، ويشير الى هذا الترابط الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه: (مناهج البحث العلمي)، فهو بعد ان تناول التعريف بالمنهج باعتباره: طائفة من القواعد العامة يتبعها الباحث من اجل الوصول الى الحقيقة في العلم[1]، يقرر وجود ترابط بين اخفاق الباحثين في الوقوف على الحقيقة وبين وجود خطأ في مناهج البحث او في تطبيقاتها، فيذكر في مقدمة كتابه ما نصه أن: (تقدم البحث العلمي رهين بالمنهج، يدور معه وجوداً وعدما، دقة وتخلخلاً، خصباً وعقماً، صدقاً وبطلاناً).
ومن هنا كان الاهتمام البالغ بتقنين مناهج للبحث العلمي من أيام ارسطو حتى يوم الناس هذا... فما انتكس العلم إلا بسبب النقص في تطبيق المناهج العلمية، أو في تحديدها، وما نما وازداد أصالة إلا بالدقة في تحديد هذه المناهج وتقرير مبادئها القويمة[2]. وعلى ضوء هذا الترابط الذي يعتقد البعض في وجوده فلقد كان في الامكان ان نكتفي بواقع حال الفكر الاداري المعاصر واخفاقه في الوقوف على حقيقة القادة كبرهان ودليل على وجود خلل وقصور تعاني منه مناهج البحث المستخدمة للكشف عن حقيقة القيادة، وذلك استناداً الى ذلك الرأي السابق الاشارة اليه، ولكننا اثرنا المضي في تحليل وتقويم مناهج البحث المستخدمة في مجال القيادة الادارية في العصر الحديث، بغية التثبت من حقيقة وجود القصور والخلل في مناهج البحث المستخدمة للكشف عن حقيقة تلك المجالات.
وفي هذا الصدد فإننا سوف نتناول النقاط التالية:
أولا: الوقوف على منهج - أو مناهج - البحث المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، وسوف نتناول في هذا الصدد:
(أ) القاء نظرة عامة على مناهج البحث الوضعية.
(ب) سيادة المنهج العلمي كمنهج وحيد للبحث في العصر الحديث، وشيوع استخدامه في دراسة ظاهرة القيادة الادارية.
ثانياً: الوقوف على مدى صلاحية المنهج العلمي في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، وسوف نتناول في هذا الصدد:
(أ) مدى صلاحية استخدام المنهج العلمي بمسلماته الاساسية في دراسة الظواهر الطبيعية.
(ب) مدى صلاحية استخدام المنهج العلمي بمسلماته الاساسية في دراسة ظاهرة القيادة الادارية.

اولاً: مناهج البحث المستخدمة في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
وفي هذا الصدد سوف نقوم بالقاء نظرة عامة على مناهج البحث الوضعية في الفكر الانساني، ثم نتبع ذلك ببيان مدى سيادة المنهج العلمي كمنهج وحيد للبحث في العصر الحديث وامتداد وشيوع استخدامه في مجال البحث عن حقيقة القيادة الادارية.
(أ) نظرة عامة على مناهج البحث الوضعية: إن المذاهب الفكرية التي انحاز اليها الفكر الانساني للوقوف على الحقيقة أربعة مذاهب رئيسة:
1 - المذهب العقلي.
2 - المذهب الحسي
3 - المذهب الارتيابي.
4 - المذهب الحدسي.
ولما كانت طبيعة كل من المنهجين الأخيرين لا تتطلبان او تستوجبان الأخذ بمناهج محددة خاصة بهما للوقوف على الحقيقة، نظراً لان المذهب الارتيابي يرى انه لا سبيل امام الانسان لإدراك الحقيقة كما ان المذهب الحدسي يرى ان الانسان لا يستطيع ادراك الحقيقة في مجالات النفس وغيرها من المجالات غير المادية عن طريق حواسه أو عقله، وان وسيلته الوحيدة للوقوف على الحقيقة في هذه المجالات هو الحدس او الالهام، وهو من الامور الذاتية التي قد يتميز بها فرد من الافراد ولا يتميز بها آخر، وعلى ذلك فقد بات المجال مقتصراً على انصار كل من المذهب العقلي والمذهب الحسي، فيما يتعلق بتقديم وتحديد انسب المناهج للوقوف على الحقيقة في كافة المجالات الطبيعية والاجتماعية. ويعد المنهج الاستنباطي من أهم المناهج التي انبثقت عن المذهب العقلي، ويعد المنهج الاستقرائي من اهم المناهج التي انبثقت عن المذهب الحسي. ولقد ازداد الصراع بين انصار كل من هذين المنهجين على مدار التطور الفكري الانساني وخاصة في الفترة الأخيرة، حيث إنقسمت الغالبية العظمى من العلماء والمفكرين الى فريقين[3]: احدهما: يرى ان طريق الوقوف على الحقيقة يبدأ من داخل الانسان متجهاً الى خارجه وأولئك هم العقليون - مذهباً ومنهجاً - حيث يرون ان الوقوف على الحقيقة يستلزم الاستناد لأصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل على اساسها يمكن استنباط دقائق المعرفة دون حاجة الى اللجوء الى مشاهدات خارجية، أما الفريق الآخر فيرى ان طريق الوقوف على الحقيقة يبدأ من خارج الانسان متجهاً الى داخله وأولئك هم اصحاب المنهج الاستقرائي التجريبي - الحسيين مذهباً ومنهجاً - حيث يرون ان طريق الوقوف على الحقيقة يبدأ بتحصيل معطيات حسية عن العالم الخارجي تنقلها إلينا حواسنا، ولقد حاول بعض المفكرين والعلماء الجمع بين كل من المنهجين عن طريق الاستناد الى ضرورة كل من مقولات العقل ومبادئه الى جانب معطيات الحواس للوقوف على الحقيقة، ولكن بالرغم من هذه المحاولات فان الخلاف يثور بين هذين الفريقين عند طرح التساؤل التالي حول تحديد من له الأولوية المطلقة في هذا الخصوص، أهو العقل أم الحواس؟ فمن جعل الأولية للعقل انحاز للعقليين ومنهجهم الاستنباطي، ومن جعل الاولوية للحواس انحاز للحسيين ومنهجهم الاستقرائي.
(ب) سيادة المنهج العلمي كمنهج وحيد للبحث في العصر الحديث، وشيوع استخدامه في دراسة ظاهرة القيادة الادارية: اننا إذا نحيا جانباً كافة هذه الاتجاهات في المواقف والاتجاهات حيال مناهج البحث عبر مسار الفكر الانساني وتكوره، واتجهنا للتعرف على موقف الفكر الإنساني في العصر الحديث من هذه المناهج، لتبين لنا ان هذا الفكر قد حسم موقفه بشكل كبير وملموس حيث يبدو لنا واضحاً جلياً مدى تحيزه وتشيعه للمنهج التجريبي الاستقرائي بشكله الحديث، حيث اطلق عليه المنهج العلمي، وأصبح واضحاً ضمنياً وطبقاً لمفهوم المخالفة، أن ما دونه من المناهج مناهج غير علمية ولم يقتصر مجال هذا المنهج على استخدامه في دراسة العلوم والظواهر الطبيعية والمادية - حيث حقق نجاحاً ملحوظاً وملموساً يشهد به الجميع - بل امتد نطاقه ليستخدم كذلك في دراسة الظواهر الاجتماعية والنفسية، واصبح الكثير من المفكرين والباحثين في هذه المجالات يرون فيه، أنه أدق منهج من مناهج البحث في هذه الظواهر بصفة عامة[4]، بل ويرى أحد المفكرين المتخصصين في هذا المجال ان اهم حدث في علم النفس الاجتماعي الحديث هو إدخال المنهج التجريبي في دراسته[5]، بل اننا نجد ان كثيراً من المراجع التي تتناول مناهج البحث في مجالات العلوم الاجتماعية والنفسية عند عرضها لمناهج وأساليب البحث المستخدمة في هذه المجالات، قلما تشير الى المناهج الأخرى، بينما نجد ان المنهج العلمي قد صار موضع اهتمام الباحثين المعنيين بمناهج البحث الوضعية.
ويكفي للتدليل على هذا الرجوع الى أي مرجع من المراجع المتخصصة في هذا المجال[6]. ولقد كان طبيعياً ان يستجيب رجال الفكر الاداري المعاصر لهذا الاتجاه، ويتشيعوا بدورهم لاستخدام المنهج العلمي في أبحاثهم ودراستهم المعنية بالكشف عن حقيقة القيادة الادارية، لعلهم يستطيعون عن طريقه الوقوف على حقيقة ظاهرة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية. ومع بداية القرن الحالي تزايد هذا الاتجاه لديهم، وقل اعتمادهم على المنهج الفلسفي التجريدي، ذلك المنهج الذي تستطيع ان تلحظ البدايات الاولى لاستخدامه في مجال القيادة في كتابات قدامى المفكرين والفلاسفة الأغريق والرومان[7]، الذين كانوا ينحون في دراساتهم للقيادة الى وضع تصورات نظرية ونماذج مثالية (افتراضية) لما يجب ان تكون عليه القيادة، ومع شيوع استخدام المنهج العلمي بدأ الفكر الاداري ينصرف عن هذا النهج النظري التجريدي في دراسة القيادة، وبدأت دراسته وأبحاثه تهتم بواقع القيادة ورصد وتحليل النماذج القيادية الناجحة، بغية الكشف عن حقيقة هذه القيادة وحقيقة مقوماتها وعناصرها، ولقد كانت أبرز الوسائل التي انتهجها الفكر الاداري في دراسته للقيادة[8]:
1 - أسلوب الاستقراء التاريخي: حيث أخذ العلماء في رصد واستقراء وتحليل النماذج القيادية الناجحة.
2 - أسلوب الاستقراء التجريبي القائم على الملاحظة.
3 - أسلوب الاستقصاءات الميدانية لأطراف الموقف القيادي.
ولقد شاع استخدام المنهج العلمي بأساليبه ووسائله المختلفة في العصر الحديث في دراسة مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية، وتوارت مناهج البحث الأخرى بعد أن هجرها الباحثون، خاصة بعد أن أسفر استخدام هذا المنهج في مجال دراسة العلوم والظواهر الطبيعية عن تحقيق طفرات علمية كبيرة، ولقد بلغ من طغيان تأثير هذا المنهج في العصر الحديث ان ظهر اتجاه في الغرب ينادي بأن علوم الاجتماع والنفس والأخلاق وبقية العلوم الاجتماعية، يجب أن تذعن للمنهج العلمي وقواعده ووسائله في البحث، إذا كانت تريد ان تحتفظ ببقائها في الحياة[9].

ثانيا: مدى صلاحية المنهج العلمي في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
وسوف نقوم في هذا الصدد بالوقوف أولاً على مدى صلاحية استخدام المنهج العلمي في دراسة الظواهر الطبيعية، ثم نتبع ذلك ببيان مدى صلاحية استخدام ذات المنهج بمسلماته الاساسية في دراسة ظاهرة القيادة الادارية:
(أ) مدى صلاحية استخدام المنهج العلمي بمسلماته الاساسية في دراسة الظواهر الطبيعية: يقوم المنهج العلمي، وترتكز دعائمه على مسلمات ثلاث اساسية، بدونها لا يستطيع ان ينهض هذا المنهج ويختل بناؤه، وتلك المسلمات هي[10]:
1 - مسلم الحتمية: ويقوم هذا المسلم على افتراض ادعاء مقتضاه، ان هناك نظاماً معنياً يحكم الظواهر التي تحدث في الكون، وان هذا النظام يمكن ان نشاهده في التلازم في التغيير الذي يحدث بين الظواهر المختلفة.
2 - مسلم الاضطراد: ويقوم هذا المسلم على اساس التسليم والاعتقاد بأن النظام الذي يحكم الظواهر الكونية - مسلم الحتمية - مضطرد الحدوث، أي ان هذا المسلم يقوم على افتراض او ادعاء مقتضاه، ان ما حدث على نحو معين في الماضي سوف يحدث على نفس النحو في المستقبل إذا ظلت الظروف على ماهي عليه.
3 - مسلم الحسية: ومقتضى مسلم الحسية ان معرفتنا بهذا النظام الحتمي المضطرد الحدوث، لا تتأتى إلا عن طريق الحواس والخبرة الحسية المباشرة او غير المباشرة، تلك هي مسلمات المنهج العلمي، والتي تمثل الركائز الاساسية التي يستند اليها هذا المنهج، والتي إن انهارت انهار تبعاً لها بناء هذا المنهج[11].
وبالرغم من اهمية هذه المسلمات، فإنها لا تعدوا ان تكون مجرد افتراضات ودعاوى - تفتقر الى برهان او دليل على صدقها وصحتها، ولقد عجز علماء العصر الحديث ومازالوا عاجزين - عن تقديم مثل هذا البرلمان او الدليل[12]، ومع ذلك فان هذه المسلمات وان لم يكن قد توافر دليل أو برهان على صدقها وصحتها، فكذلك لم يتوافر دليل أو برهان على عدم صدقها وصحتها. ولكن علماء العصر الحديث يسلمون بصحة هذه المسلمات انطلاقاً من الضرورة العملية[13]، وهذا النفع الذي تحقق من الأخذ بالمنهج العلمي والتسليم بهذه المسلمات، والمتمثل في هذا التقدم المضطرد في مجال دراسة الظواهر الطبيعية، وهذا الكم الهائل من القوانين والنظريات العلمية التي أسفر عنها استخدام المنهج العلمي في دراسة هذه المجالات، فهم يرون في هذه النتائج خير دليل وبرهان على صدق وصحة الأخذ بهذه المسلمات. وعلى ذلك فقد انتهى الفكر الانساني في العصر الحديث، من ان معيار الحكم على صحة وصدق هذه المسلمات، ومن ثم صلاحية استخدام المنهج العلمي، هي تلك الضرورة العملية، وتلك النتائج الايجابية الملموسة الناتجة عن استخدامه في أي من المجالات، ومن ثم فإننا نستطيع الحكم بصلاحية استخدام المنهج العلمي في دراسة الظواهر الطبيعية، وذلك استناداً الى النتائج الايجابية الملموسة التي أسفر عنها استخدام هذا المنهج في مجال دراسة هذه الظواهر.
(ب) مدى صلاحية استخدام المنهج العلمي بمسلماته الاساسية في دراسة ظاهرة القيادة الادارية: سبق ان اشرنا الى ان العلماء قد اتخذوا من تلك النتائج الايجابية الملموسة التي حققها استخدام المنهج العلمي في دراسة الظواهر الطبيعية قرينة على صحة وصدق مسلماته، ومعياراً لهم للحكم على صلاحية استخدامه في هذا المجال، وأي مجال آخر، ولقد كانت تلك النجاحات التي حققها هذا المنهج في مجال العلوم الطبيعية أثر كبير في شيوع استخدام هذا المنهج في دراسة ظاهرة القيادة الإدارية، فقد أغرت تلك النجاحات رجال الفكر الاداري المعاصر - كما أغرت غيرهم من علماء العلوم الاجتماعية - بانتهاج هذا المنهج لعلهم ينجحون في الوقوف على حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية.
ولكن الملاحظ ان استخدام هذا المنهج في الكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، لم يسفر عن تحقيق أي تقدم ايجابي ملموس في هذا الصدد، ولعل خير شاهد على ذلك ما انتهت اليه نتائج 287 دراسة اجريت خلال الفترة من 1904 - 1970، والتي سبق لنا مناقشتها في الفصل الثاني، وبالرغم من أن كافة هذه الدراسات قد انتهجت المنهج العلمي في دراستها، وسعيها للوقوف على حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية[14]، ورغم هذا فقد انتهت هذه الدراسات الى ذات الموقف الذي بدأت منه، فقد بدأت هذه الدراسات وحقيقة القيادة وحقيقة مقوماتها وعناصرها مختلف عليها، وللفكر الاداري المعاصر مواقف مختلفة ومتباينة ومتزامنة، وانتهت حقيقة القيادة وحقيقة مقوماتها وعناصرها مختلف عليها والفكر الاداري المعاصر مازالت مواقفه مختلفة ومتباينة ومتزامنة في هذا الصدد، بل والملاحظ، ان الهوة قد ازدادت والخلافات قد اتسعت، وأن الوقوف على حقيقة القيادة قد أصبح يبدو أنه أصعب منالاً - في ظل استخدام المنهج العلمي - عن ذي قبل.
وبالتحاكم الى معيار الضرورة العملية والنتائج الايجابية التي اتخذها العلماء في العصر الحديث برهاناً على صحة استخدام المنهج العلمي في مجال العلوم الطبيعية وصحة وصدق مسلماته، استناداً الى ذلك وعلى ضوء النتائج المحدودة الأثر والقيمة التي اسفر عنها استخدام هذا المنهج في مجال دراسة ظاهرة القيادة والكشف عن مقوماتها وعناصرها القيادية، فإننا نستطيع القول ان هذا المنهج بمسلماته الثلاث مازال يفتقر لتوافر الدليل او البرهان على صحة وصدق التسليم بمسلماته الأساسية في مجال دراسة ظاهرة القيادة الادارية.
كما نستطيع القول أنه بالتحاكم الى مسلم الحسية - احد المسلمات الثلاث الاساسية التي يقوم عليها المنهج العلمي - يستوجب عدم استخدام المنهج العلمي في دراسة ظاهرة القيادة الادارية، حيث تقضي هذه المسلمة بأن معرفتنا بالظواهر الكونية المحيطة بنا لا تتأتى إلا عن طريق الحواس او الخبرة الحسية المباشرة او غير المباشرة، في حين ان ظاهرة القيادة من الظواهر الاجتماعية والنفسية التي لا يتأتى الوقوف عليها عن طريق الحواس[15]، وعلى ضوء ما سبق يتبين لنا ان المنهج العلمي لا يصلح للاستخدام في دراسة ظاهرة القيادة الادارية والكشف عن مقوماتها وعناصرها القيادية، وان كان هذا لا يتنافى مع صلاحية هذا المنهج للاستخدام في دراسة الظواهر الطبيعية، وان المنهج العلمي ليس معيباً في ذاته، ولكن العيب والقصور يلحقان به عندما يستخدم للكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، وغيرها من الظواهر غير الحسية.
ويجدر بنا ان نشير في ختام هذا التحليل والتقويم لاستخدام المنهج العلمي في دراسة ظاهرة القيادة الادارية الى أمرين:
الامر الاول: أن المنهج العلمي وإن كان استخدامه في مجال دراسة الظواهر الطبيعية قد حقق نتائج إيجابية ملموسة، وطفرات كبيرة في مجال الكشف عن حقيقة كثير من الظواهر الطبيعية، فن هذا يجب ألا ينسينا ان مادونه من مناهج وضعية قد حققت هي الاخرى نجاحات في مجال الكشف عن حقيقة تلك الظواهر، فكل من المنهج الاستنباطي، والمنهج التجريبي ذو المفهوم اللآلي للسببية. قد حقق قدراً من النجاح في هذا المجال، بل إن هناك من يرى ان المذهب الحدسي - الإلهامي - قد حقق هو الآخر قدراً من النجاح في هذا المجال، ومن ذلك وقوف أينشتين في عام 1905 على القانون الذي يحدد العلاقة بين المادة والطاقة، ونجاح العلماء بعد ذلك في التدليل على صحة هذا القانون[16]، ومن ذلك ايضاً تنبؤات العالم الروسي مندليف في عام 1869 بأوصاف ثلاثة عناصر مستحدثة وتحديده لخصائصها وأوزانها الذرية، وقد ثبت بعد ذلك صحة تنبؤاته واحد هذه العناصر هو عنصر الجرمانيوم المستخدم حاليا في صناعة الترانزستور[17]، ويجدر بنا ان نشير كذلك ان نجاح المنهج الرياضي في اكتشاف كوكبي نبتون، وبلوتو - أفلاطون - رياضياً قبل ان يتم اكتشافهما حسياً باستخدام المنظار[18].
كما نود ان نشير في ذات الوقت - ومن جهة أخرى - ان المنهج العلمي وإن كان قد اخفق في تحقيق تقدم ايجابي ملموس في مجال الكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية، فإن مادونه من مناهج وضعية قد اخفقت هي الاخرى في تحقيق نجاحات ايجابية ملموسة في هذا المجال، ولاشك ان عزوف الفكر الاداري عنها وإقباله على المنهج العلمي منذ أوائل القرن العشرين يعد دليلاً على مدى اخفاق تلك المناهج الوضعية. ولاشك ان هذا يؤكد لنا صحة ما سبق أن أشرنا اليه بخصوص قصور المنهج العلمي عن الكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية، من أن قصور المنهج العلمي - وما دونه من مناهج - في هذا المجال ليس مرجعه قصوراً في ذات المنهج - او المناهج الوضعية الاخرى - بقدر ما هو قصور ناتج عن استخدامها في دراسة ظاهرة غير محسوسة كظاهرة القيادة الادارية، هي بحكم طبيعتها وذاتيتها فوق نطاق قدرات: عقل وحواس الانسان، ومن ثم فوق مستوى وإمكانات مناهج البحث الوضعية.
الامر الثاني: أن علماء الغرب وإن كانوا هم أول من دعا وروج في اوائل هذا القرن لاستخدام المنهج العلمي في مجال القيادة الادارية وغيرها من الظواهر النفسية والاجتماعية، فإن هناك دلائل واشارات الى انهم في الغرب الآن، ونحن نكاد نقترب من نهاية القرن العشرين قد بدأوا يدركون فساد مادعوا إليه وروجوا له، ومن ذلك:
(أ) ظهور اتجاهات وفلسفات رافضة للمنهج العلمي، وتأتي الوجودية في مقدمة الحركات الفلسفية التي جاءت تعبيراً عن هذا الرفض[19].
(ب) ظهور نزعات واتجاهات في الفن والأدب رافضة لهذا المنهج، وتأتي حركة الفن الحديث التي تنادي بالفرار الى عالم اللامعقول في مقدمة تلك الاتجاهات الرافضة، وبخصوص تلك الظاهرة في الفن والادب يرى البعض: (ان عصرنا الحاضر بعد ان يئس من عالم الصحو لجأ الى عالم الأحلام).[20]
ونود ان نشير بخصوص تلك الاتجاهات الفلسفية والفنية الادبية الرافضة للمنهج العلمي الى ما يلي:
1 - ان الرافضين للمنهج العلمي في الغرب، انما يرفضونه في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية والنفسية، والقول بغير ذلك يكذبه هذا التقدم المادي الهائل المضطرد الذي يحققونه في الغرب يوماً اثر يوم نتيجة لحرصهم على استخدام المنهج العلمي في دراسة الظواهر الطبيعية والمادية.
2 - ان هذا الاتجاه الرافض للمنهج العلمي، وان كان مازال محدود الحجم، فإننا نرى ان هذا الرفض بمثابة اعتراف من الغرب بقصور المنهج العلمي، وعدم جدوى استخدامه في دراسة الظواهر الاجتماعية والنفسية.
(ح) وبغض النظر عن هذه الحركات الادبية وتلك الاتجاهات الفلسفية، فإن هناك دلائل سلوكية تعد قرينة على ان الغرب يدرك في الواقع مدى قصور وإخفاق المنهج العلمي - وما دونه من مناهج وضعية - في الكشف عن حقيقة القيادة الادارية وغيرها من الظواهر غير الحسية، ونلحظ هذا واضحاً جلياً من مسلك الغرب تجاه النتائج التي أسفر عنها استخدام المنهج العلمي في دراسة كل من الظواهر الطبيعية والمادية والظواهر الاجتماعية والنفسية، حيث نلحظ مدى اهتمام وعناية الغرب بالنتائج التي اسفر عنها استخدام المنهج العلمي في مجال العلوم الطبيعية والمادية، وحرصه على تكتم النتائج التي توصل اليها في هذا، واعتبارها من قبيل الاسرار العلمية، فنجدهم في الغرب حريصين على الاستئثار بهذه النتائج لأنفسهم، والضن بها على غيرهم، وفي نفس الوقت الذي يقفون فيه هذا الموقف من النتائج التي اسفر عنها استخدام المنهج العلمي في مجال العلوم الطبيعية والمادية، نجدهم يقفون موقفا آخر ويسلكون مسلكاً مغايراً تماماً بالنسبة للنتائج التي اسفر عنها استخدام المنهج في مجال العلوم الاجتماعية والنفسية، حيث نجدهم هنا لا يحرصون على تكتم نتائج دراساتهم وأبحاثهم التي انتهجت المنهج العلمي، ولا يضنون بها على غيرهم، بل نجدهم على العكس من ذلك تماماً يقومون بنشرها والترويج لها.
ولعل في هذا الموقف المتناقض أبلغ دليل على انهم في الغرب يدركون حقيقة بضاعتهم، حقيقة الغث منها الذي يحتاج للدعاية والترويج، وحقيقة الثمين منهجنا الذي يحتاج للحرص عليه والاستئثار به وعدم التفريط فيه.
ولكننا نعتقد انه بالرغم من كل هذه الاشارات والدلائل، فأن الامد سيطول حتى يجهر الغرب ويسلم صراحة بقصور وعدم صلاحية المنهج العلمي - وما دونه من مناهج وضعية - للاستخدام في الكشف عن حقيقة ظاهرة القيادة الادارية وغيرها من الظواهر غير الحسية، فإنهم في الغرب يدركون تماما معنى تسليمهم بهذا بعد ان احيط بهم وأسقط في أيديهم على ضوء إخفاق المناهج الوضعية تباعا وآخرها المنهج العلمي في تحقيق نجاحات ايجابية ملموسة في هذا المجال، وأن الإقرار بهذا الإخفاق يعني التخلي عن تلك المناهج الوضعية والتسليم معنا بوجوب التحاكم الى منهج الخالق سبحانه.
والدليل على ان الامد سيطول حتى يطهر الغرب بإخفاق المنهج العلمي - وما دونه من مناهج وضعية - في هذا المجال هو ان القلة الرافضة التي أعلنت رفضها لهذا المنهج لم ترتضي لنفسها التحاكم الى منهج الله الخالق، وان رضيت لنفسها الخبل والجنون وغيبت حواسها وعقولها بالخمور والأفيون والجنس والشذوذ وكل موبقات عالم اللامعقول. وبالرغم من تزايد الامراض والأزمات والمشكلات النفسية والاجتماعية التي اصبح يعاني منها الافراد والجماعات في العصر الحديث عن ذي قبل[21]، وبالرغم من فشل علماء هذا العصر بمناهجهم الوضعية - وآخرها المنهج العلمي - في التصدي لعلاج هذه الامراض والازمات والمشكلات، وبالرغام من ان البعض منهم كانوا يهاجمون الدين، ويقولون عنه أنه أفيون الشعوب، أصبح هؤلاء العلماء هم الذين يقدمون الأفيون ومشتقاته في شكل أدوية وعقاقير ومسكنات ومهدآت ومغيبات أفيونية وغير أفيونية كنوع من التسكين والتخفيف من حدة تلك الامراض والأزمات والمشكلات النفسية والاجتماعية المستعصية على الحل بعد ان استعصى عليهم أمر الوقوف على حقيقتها وحقيقة العوامل المسببة لها.
ولعل اخفاق المنهج العلمي - وما دونه من مناهج وضعية - في الوقوف على حقيقة القائد الاداري الرشيد، وحقيقة المقومات والعناصر القيادية التي يكفل توافرها تمكنه من القيام بتحقيق وتلبية احتياجات واهداف الافراد والجماعات والمجتمعات بكفاءة وفعالية، كان أحد العوامل وراء تفشي واستفحال شأن تلك الامراض والازمات والمشكلات الاجتماعية والنفسية التي اصبح يعاني منها افراد وجماعات ومجتمعات العصر الحديث.
خلاصة القول إذن: ومن جماع ما سبق يتأكد لنا صدق الشطر الاول من الفرض الاول، والذي يرجع الاختلاف والتباين (المتزامن) في مواقف الفكر الاداري المعاصر تجاه حقيقة القيادة الادارية وحقيقة مقوماتها وعناصرها القيادية الى قصور مناهج البحث المستخدمة للكشف عن حقيقة تلك القيادة، وحقيقة مقوماتها وشروطها القيادية.
ان كنا نود ان نضيف ان هذا القصور ليس قصورا في المنهج ذاته بقدر ما هو قصور ناتج عن استخدام خاطئ للمناهج الوضعية - وآخرها المنهج العلمي - في دراسة ظاهرة غير حسية كظاهرة القيادة هي بطبيعتها يعتبر الوقوف على حقيقتها فوق قدرات: حواس وعقل ومناهج الانسان.
وعلى ضوء تحققنا من صحة الشطر الاول من الفرض الأول، فقد تبقى امامنا ان نتحقق من مدى صحة الشطر الثاني من هذا الفرض، والذي يرجع كذلك هذا الاختلاف والتباين (المتزامن) في مواقف الفكر الاداري المعاصر تجاه حقيقة القيادة الادارية الى وجود قصور في عمليات القياس المستخدمة.

ليست هناك تعليقات: